الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                فرع :

                                                                                                                في الكتاب : إن أخدم عبده رجلا مدة معلومة أو حياته فجنى ; خير مالك الرقبة ، فإن فداه بقي في خدمته ، أو أسلمه خير المخدم إن فداه خدمه ، فإذا تمت خدمته ; فإن دفع إليه السيد ما فداه به أخذه ، وإلا أسلمه للمخدم رقا ; لأن الفداء صيره كالمجني عليه ، فإن أوصى برقبته لآخر والثلث يحمله إذا جنى قدم صاحب الخدمة ; إن فداه خدمه وأسلمه بعد الأجل للموصى له بالرقبة ; لأنها في الوصية فرع استيفاء الخدمة ، ولا يتبعه بشيء مما ودى ; لأنه فداه لنفسه ، والفرق : أن الرقبة في الأول ملك للموصي ، له الرجوع فيها ، بخلاف الموصى له ، وإن أسلمه خير صاحب الرقبة إن فداه أخذه ; لسقوط حق الخدمة بالإسلام . قال سحنون : اختلف قوله في هذا الأصل ، وأحسن ما قيل : أن يبدأ صاحب الخدمة إن فداه خدمه بقية الأجل ، ولا يكون لصاحب الرقبة عليه سبيل حتى يعطي الفداء ، وإلا كان للذي فداه رقا ; فإن كان الثلث يحمله وقد أوصى بخدمته لرجل ، وبرقبته لآخر ; فقتل أو قطعت يده في الخدمة ، فالأرش لمن له مرجع الرقبة ; لأنه بدل عنها أو حزها ; قاله مالك ، واختلف فيه أصحابه . قال التونسي : قال غير ابن القاسم في المسألتين : يبدأ بالمخدم ; فإن افتداه لم يكن للذي له الرقبة سبيل إلا بدفع الجناية ، وإن أسلمه خير من له مرجع الرقبة ; فإن افتداه سقط حق صاحب الخدمة ، وقال أصبغ : يبدأ صاحب البتل فيخير كما إذا وهب الخدمة فقط ; فإن أخدم عبده مدة ومرجعه إليه . قال أشهب : يكونان كالشريكين ; تقوم رقبته بعد الرجوع ، وهي قيمة الخدمة خيرا جميعا في الفدية والإسلام ; فإن فدياه دفع كل واحد نصف دية الجرح ، وبقي العبد على حاله ، وإن [ ص: 224 ] أسلماه بقي مملوكا للمجروح ، أو افتدى أحدهما ماله فذلك له ، وإن خالفه الآخر ; فإن أخدمه رجلا سنة ثم لآخر سنة ، ثم رقبته لآخر ، فاختلف قوله فيه اختلافا كثيرا ، وعن ابن القاسم : يخير المخدمان ; فإن افتدياه فهو على حاله ، ولا يرجعا بالفداء على أحد ، أو أسلماه أخدمه المجروح ; فإن انقضت السنتان وجرح حرا اتبعه المجروح بما بقي ، وإن استوفى قبل ذلك رجع إليه منها سنة ، وإن أسلم أحدهما وقال الآخر : أفدي ، فللفادي الخدمتان : خدمته ، وخدمة الآخر . وينبغي على رأي أشهب : أن يقوم مرجع رقبته ، ويخيرون كلهم كالشركاء ، وعن ابن القاسم : يخير المخدم أولا لتقدمه ; فإن افتداه خدمه سنة ولا رجوع له في المخدم الثاني ، ولا على صاحب الرقبة ، أو أسلمه خير الثاني ، فإن أسلمه خير صاحب البتل ; فإن كان بعدهما إلى حرية اختدمه المخدم في الأجلين ; فإن أدى الجناية وقد بقي من خدمة أحدهما شيء رجع فخدمه ثم عتق ، وإن افتداه الأول فخدمه فلم يستوف ما أدي خدمه في أجل صاحبه حتى يستوفي ; فإن بقي في أجل صاحبه شيء فأخذه ، فاختدمه ثم خرج حرا بعد انقضاء الأجل ; فإن كان مرجعه لثالث فأسلم للمخدمين ، خير صاحب الرقبة ; فإن أسلمه كان للمجروح ، أو افتداه كان له بتلا ، وقيل : إن أسلمه المخدم الأول وفداه الثاني لم يختدمه إلا سنة ، ثم يرجعه إلى ما أرجعه إليه سيده ، قال : وفيه نظر ; لأنه إذا جنى أول السنة الأولى ، وافتداه الثاني بعد أن أسلمه الأول فالذي افتداه لم تأت سنته ، والأول لا يمكنه أن يأخذ منه ; لأنه قد سلمها ، والذي له مرجع الرقبة إنما هو له بعد سنتين ، فكيف يأخذ هذه السنة ، والأشبه أن تكون السنتان للثاني الذي فداه ؟ قال ابن يونس : قال محمد : لم يختلف مالك وأصحابه أنه إن أخدمه مدة ، ثم مرجعه إليه فقتل في المدة ، فقيمته لسيده ; لأنها بدل عن الرقبة ، وهي له ; ولأن السيد لو أحدث دينا لقوم على المبتل له بعد سنة ، ولو مات السيد ورث عنه ; لأن المبتل لم يحرزه بعد ، وإنما اختلف قوله إذا خدمه ، ثم مرجعه لفلان بتلا . قال أشهب : إن قبضه المخدم [ ص: 225 ] حيازة له وللمبتل له معه لا يلحقه الدين المستحدث ، ولا يبطله موسده وتقام قيمته إن قتل مقامه يشرى بها من يخدم مكانه ، ثم يصير لصاحب المرجع ; فإن أخدمه فقتله السيد خطأ فلا شيء عليه ، ويغرم في العمد القيمة ; فتجعل في يد عدل لواحد منهما ; للمخدم بقية الأجل أو العمر إن أعمره إياه ، فما فضل فللسيد ، وما عجز فلا شيء عليه ; لأنه لم يلتزم شيئا في ذمته عند الخدمة ، وإنما ضمن في العمد بسببه في الإتلاف ، وقال ابن القاسم : يشتري منها من يخدمه تحقيقا للمساواة بين البدل والمبدل منه ، وإن أخدم أمته رجلا ثم هي حرة فجرحته اختدمها بالجناية ; فإن استوفى رجعت للخدمة بقية الأجل ; فإن انقضت ولم يستوف اتبعها بالباقي ، وكذلك إن جنت على عبده كالمدبر يجني على السيد .

                                                                                                                فرع :

                                                                                                                في الكتاب : إن جنى المعتق إلى أجل ففدى سيده الخدمة أو يسلمها ; فإن فداه ، عتق العبد للأجل ولم يتبعه بشيء ; لأن جناية الرقيق لا تتعلق بذمته ، وإن أسلمها خدم العبد في الجناية ; فإن وفاها قبل الأجل لسيده وإن أوفى الأجل لم يتم عتق ، واتبع ببقية الأرش ، قال ابن يونس : فإن جنى على سيده فكالمدبر .

                                                                                                                فرع :

                                                                                                                في الكتاب : إن جنى المدبر وله مال ، دفع ماله لأهل الجناية توفية بالعتق والجناية ، وإن لم يكن فيه وفاء أسلم السيد حصته أو فداها بباقي الجناية ، وإن [ ص: 226 ] جنى المدبر على جماعة ; فأسلم إليهم فحاصوا في خدمته ، ثم جرح آخر ، حاص الأول لمساواته في السبب ; هذا بجنايته ، والأول بما بقي له . قال مالك : إن جنى المدبر خير سيده بين فداء خدمته بما جنى ، أو يسلمها فيخدمه المجني عليه ; فإن تم ماله والسيد حي رجع إليه مدبرا أو عتق في الثلث ببقية الجناية في ذمته ، فإن أدركه دين يغترقه ( ومات السيد والدين والجناية يغترقانه ; بيع منه للجناية ) فالمجني عليه أحق برقبته لتعلق الجناية بها دون الدين ; إلا أن يقدمه أهل الدين ببقية الجناية أو لا يغترقانه ; بيع منه للجناية والدين ، وعتق ثلث ما بقي . وقال ابن القاسم : إذا جنى وعلى سيده دين يغترق قيمته أو لا ، فالجناية أحق بالخدمة إلا أن [ . . . ] الغرماء الأرش فيأخذوه أو يؤخروه حتى يستوفوا دينهم ; فإن لم يأخذه الغرماء أسلم للمجني عليه يخدمه ، فإن مات السيد وعليه دين ورقبته كافية في الدين والجناية وفضلة بيع منه لذلك وبدئ بالبيع للجناية ، وعتق ثلث الباقي ، وإن كان لا فضل في قيمته ( أو هي أقل منهما فالجناية أحق به لتعلقه في رقبته ) ; إلا أن يزيد الغرماء على قيمة الجناية فيأخذوه ويحط عن الميت قدر الزيادة ، وإن جنى وله ماله وعليه دين ; فالغرماء أحق بماله لاختصاص الجناية برقبته مال له فدينه في ذمته ، والجناية في خدمته .

                                                                                                                في النكت : إن قيل : لم لا يخدم المجني عليه والمعتق إلى أجل ; إلى موت السيد ، وانقضاء الأجل ; لأن السيد مالك الخدمة لهذا الحد ، وقد سلم ما يملك فلا يقاصص بالخدمة في الأرش ، ولم لا ؟ كان كالعبد القن إذا سلم تكون رقبته له ، وإن كان فيها فضل الغي ; كذلك هاهنا لا يأخذ من القيمة مقدار الأرش ، قيل : [ ص: 227 ] قد لا يبقى من الأجل إلا يوم ، أو يموت السيد بعد يوم فتبطل الجناية ، ولا يمكن الرجوع على السيد ; لأنه قد سلم ما يملك ، ولا يطالب العبد أيضا بالجميع ; لأنه قد يسلم فيملك المجني عليه شيئين : ما أسلمه السيد ، وجميع الأرش ; وهو باطل . فتعين مطالبة العبد بما بقي له ; إن بقي له شيء ، فإن استوفاه رجع السيد . معنى مسألة اجتماع الجناية والدين : أنهم إذا افتكوه بالأرش فقط ، ولم يزيدوا فإذا بيع وفضل عن الأرش فهو في دينهم ; فإن فدوه بزيادة كان الفضل عن الأرش لهم ، ولا يحاسبوه به في دينهم ; لأنهم كأنهم ملكوه بتلك الزيادة ، وفضله لهم ، وقوله : لم يزيدوا على الأرش ، مثاله : الأرش خمسون ، فيقولون : ندفعها لأهلها وتسقط عشرة من ديننا عن الذمة ; فبالإسقاط يصير ذلك كثيرا ، إن فضل عن الأرش كان لهم ، ولا يأخذوه من دينهم ، ومتى كانت الجناية عشرة وقيمة العبد عشرة ، والدين عشرة ، فهو كأهل الجناية فقط ; إلا أن يفتكه أهل الدين في قيمته فضل عن عشرين بيع الأرش والدين ، وعتق ثلث ما بقي ، لاحتماله هاهنا جزأ من الحرية ، والجناية : إنما تتعلق بجميع الرقبة حتى يفك ; لأنه يباع من الجاني بقدر الأرش ، فإن قيل : إذا استوى في الدين والجناية والقيمة إنما رق من جهة الدين لا من جهة الأرش ; لأنه إذا انفرد الأرش لم يمنع عتق التدبير ، واتبع ما عتق منه بمنابه من أرش ، وإذا كان الموجب لرقه إنما هو الدين فلم لا يكون للجناية مقدار ما اغترقه الدين فقط ؟ فيكون لهم في المثال المتقدم نصفه ; لأن الدين إنما اغترق فيه نصفه . قيل : يلزم أن يعتق من المدبر ما يتعين للعتق ، وهو باطل ; لأن بقاء بعض الدين يمنعه لو أخذ أهل الجناية مقدار [ ص: 228 ] ما اغترقه الدين ، وقال أهل الدين فيما بقي ، فإذا أخذوا شيئا ، قال أهل الجناية فيه : لأن الجناية أقوى لتعلقها بالرقبة ، فلما كان لهم القيام كلما قام أرباب الدين ، كان جميعه للجناية ، واعلم أنها تصير مسألة دور ; كقول أشهب فيمن أعتق عبدا وعليه دين : يغترق نصفه ، ثم استحدث دينا آخر ، ثم قام جميعهم ، وابن القاسم يخالفه . فانظر لم افترقا عند ابن القاسم ، وإذا جنى المدبر على سيده فمات السيد قبل وفاء الأرش ; فيعتق بعض المدبر في الثلث ، واتبع حصة العتيق بما يقع عليه ، ورق باقيه للورثة . ينبغي أن يكون ما يؤخذ من العبد كمال كذا يدخل في ثلثه ; لأن المدبر يدخل فيما لم يعلمه السيد غير أنا إذا أعتقنا منه مثل ثلث ما نقص منه أولا وجب أن يجعل على القدر الذي ازداد في عتقه ما يقع عليه ( من الأرش ، فكما امتنع جزاء العتق بما يؤخذ به امتنع بما يفضل ) .

                                                                                                                قال التونسي : إذا جنى المدبر ؟ قيل : يخير سيده في إسلام جملة الخدمة أو يقيدها ; لأنه الذي يملكه من المدبر ، وعلى هذا لا يرجع بعد إسلامها ، وإن عتق في ثلثه لم يتبع ببقية الجناية ، وإذا لم يترك غيره فعتق ثلثه لا يتبع الثلث المعتق ، ولا يخير الوارث ، وإن كان الدين مثل الجناية . وقال أهل الدين : يضمن الجناية ويأخذ العبد ، لم يكن لهم ذلك إلا أن يزيدوا ; فتحصل الزيادة من الدين . وفي الموازية : لو أراد الوارث أن يبيع منه بقدر الجناية التي أدوا ، ويدفع الفاضل للغرماء ( منع ، ولا يأخذوه إلا على طرح ما دفعوا ، ويباع كله للغرماء ) ، وفيه نظر ; لأنه حق في الشفعة ; لهم أخذها ، ويكون الفضل للغرماء ، وإن اشترى بالخيار [ ص: 229 ] فمات ، للوارث الأخذ من ماله إذا لم يرد الغرماء أخذه إن كان في أخذه ضرر على الميت ، ولم يقل : إن ذلك الفضل للغرماء ، واختلف في جنايته بعد أن أسلم خدمته ، لمن يكون خراجه : لسيده - وهو الأشبه - أو لأهل الجناية ؟ وإذا كان الدين يغترقه فترك أهل الدين دينهم . قيل : يعتق ثلثه كمن مات ولا دين عليه ، وقيل : الجناية أحق به لأنها كانت استحقته كله ، وإن ولدت المدبرة فجنت فمات السيد مديونا بدئ بالجناية ; فإن أحاطت برقبتها أسلمت وحدها ، ويكون الدين في ولدها إن اغترقهم بيعوا ، أو بعضهم بيع البعض وعتق ثلث الباقي ; فإن اغترقت الجناية نصفها ( بيع نصفها ) في الجناية ، وفض الدين على نصفها وعلى الولد ; فيباع منهم بالحصص ، ويعتق ثلث الباقي ، فيعتق من ولدها أكثر مما عتق منها ; لأن الجناية ملكت بها ، فما رق منها للجناية وبيع كأن الميت لم يتركه ولم يمت إلا عما رق منها عن ولدها .

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                الخدمات العلمية