الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          ومن طريق عبد الرزاق نا ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح قال : تجوز شهادة النساء مع الرجال في كل شيء - وتجوز على الزنى امرأتان وثلاثة رجال .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق ابن أبي شيبة نا إسماعيل ابن علية عن عبد الله بن عون عن محمد بن سيرين : أن رجلا ادعى متاع البيت ، فجاء أربع نسوة يشهدن فقلن : دفعنا إليه الصداق وقلنا : جهزها ؟ فقضى شريح عليه بالمتاع وقال له : إن عقرها من مالك - هذا في غاية الصحة .

                                                                                                                                                                                          وأما المتأخرون : فإن سفيان الثوري قال في أحد قوليه : تقبل المرأتان مع رجل في القصاص ، وفي الطلاق ، والنكاح ، وكل شيء - حاش الحدود - ويقبلن منفردات فيما لا يطلع عليه إلا النساء . [ ص: 481 ]

                                                                                                                                                                                          وقال عثمان البتي ، وسفيان في أحد قوليه : يقبلن مع رجل في الطلاق ، والنكاح ، وكل شيء - حاش الحدود والقصاص - ويقبلن منفردات فيما لا يطلع عليه إلا النساء ، ولا يقبل في الرضاع إلا رجل وامرأتان .

                                                                                                                                                                                          وقال الحسن بن حي : لا تجوز شهادة النساء مع رجل في الحدود ، وتصدق المرأة وحدها في الولادة : أنها ولدت هذا الولد ، ويلحق نسبه - وإن لم يشهد لها بذلك أحد سواها .

                                                                                                                                                                                          وقال ابن أبي ليلى : يقبلن منفردات في عيوب النساء ، وما لا يطلع عليه إلا النساء ، ولا يقبل في الرضاع إلا رجل وامرأتان أو رجلان .

                                                                                                                                                                                          وقال الليث بن سعد : يقبلن منفردات فيما لا يطلع عليه الرجال ، ولا يقبلن مع رجل : لا في قصاص ، ولا حد ، ولا طلاق ، ولا نكاح - وتجوز شهادة امرأتين ورجل في العتق والوصية .

                                                                                                                                                                                          وقال أبو حنيفة : تقبل شهادة امرأتين ، ورجل في جميع الأحكام أولها عن آخرها ، حاش القصاص والحدود - ويقبلن في الطلاق والنكاح والرجعة مع رجل - ولا يقبلن منفردات : لا في الرضاع ، ولا في انقضاء العدة بالولادة ، ولا في الاستهلال لكن مع رجل - ويقبلن في الولادة المطلقة ، وعيوب النساء منفردات .

                                                                                                                                                                                          قال أبو يوسف ، ومحمد بن الحسن : ويقبلن منفردات في انقضاء العدة بالولادة ، وفي الاستهلال .

                                                                                                                                                                                          وقال مالك : لا تقبل النساء مع رجل ولا دونه : في قصاص ، ولا حد ، ولا طلاق ، ولا نكاح ، ولا رجعة ، ولا عتق ، ولا نسب ، ولا ولاء ، ولا إحصان .

                                                                                                                                                                                          وتجوز شهادتهن مع رجل في الديون ، والأموال ، والوكالة ، والوصية التي لا عتق فيها - ويقبلن منفردات : في عيوب النساء ، والولادة ، والرضاع والاستهلال - وحيث يقبل شاهد ويمين الطالب ، فإنه يقضى فيه بشهادة امرأتين ويمين الطالب ، ويقضى بامرأتين مع أيمان المدعي في القسامة .

                                                                                                                                                                                          وقال الشافعي : تقبل شهادة امرأتين مع رجل في الأموال كلها ، وفي العتق ; لأنه [ ص: 482 ] مال ، وفي قتل الخطأ ، وفي الوصية لإنسان بمال - ولا يقبلن في أصل الوصية لا مع رجل ولا دونه - ويقبلن منفردات فيما لا يطلع عليه إلا النساء .

                                                                                                                                                                                          وقال أبو عبيد : لا تقبل النساء مع رجل إلا في الأموال خاصة .

                                                                                                                                                                                          وقال أبو سليمان : لا يقبلن مع رجل إلا في الأموال خاصة .

                                                                                                                                                                                          وأما اختلافهم في عدد ما يقبل منهن حيث يقبلن منفردات .

                                                                                                                                                                                          فروينا عن عمر بن الخطاب كما ذكرنا أن مكان كل شاهد رجل امرأتان فلا يقبل فيما يقبل فيه رجلان إلا أربع نسوة .

                                                                                                                                                                                          وعن علي بن أبي طالب مثل ذلك - وهو قول الشعبي ، والنخعي في أحد قوليهما ، وعطاء ، وقتادة في قوله جملة ، وابن شبرمة ، والشافعي ، وأصحابه ، وأبي سليمان وأصحابه ، إلا أنهم قالوا : تقبل في الرضاع امرأة واحدة .

                                                                                                                                                                                          وقال عثمان البتي : لا يقبل فيما يقبل فيه النساء منفردات إلا ثلاث نسوة لا أقل .

                                                                                                                                                                                          وقالت طائفة : تقبل امرأتان في كل ما يقبل فيه النساء منفردات - وهو قول الزهري إلا في الاستهلال خاصة ، فإنه يقبل فيه القابلة وحدها .

                                                                                                                                                                                          وقال الحكم بن عتيبة : يقبل في ذلك كله امرأتان - وهو قول ابن أبي ليلى ومالك وأصحابه ، وأبي عبيد - وقالت طائفة : تقبل امرأة واحدة .

                                                                                                                                                                                          روينا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه : أنه أجاز شهادة القابلة وحدها وروينا ذلك عن أبي بكر ، وعمر رضي الله عنهما في الاستهلال ، وأن عمر ورث بذلك - وهو قول الزهري ، والنخعي ، والشعبي في أحد قوليهما - وهو قول الحسن البصري ، وشريح ، وأبي الزناد ، ويحيى بن سعيد الأنصاري وربيعة ، وحماد بن أبي سليمان

                                                                                                                                                                                          - قال : وإن كانت يهودية كل ذلك قالوه في الاستهلال ، إلا الشعبي ، وحمادا فقالا : في كل ما لا يطلع عليه إلا النساء - وهو قول الليث بن سعد .

                                                                                                                                                                                          وقال سفيان الثوري : يقبل في عيوب النساء ، وما لا يطلع عليه إلا النساء امرأة واحدة - وهو قول أبي حنيفة ، وأصحابه - وصح عن ابن عباس ، وروي عن عثمان ، [ ص: 483 ] وعلي - أميري المؤمنين - وابن عمر ، والحسن البصري ، والزهري - وروي عن ربيعة ، ويحيى بن سعيد وأبي الزناد ، والنخعي ، وشريح ، وطاوس ، والشعبي : الحكم في الرضاع بشهادة امرأة واحدة .

                                                                                                                                                                                          وأن عثمان فرق بشهادتهما بين الرجال ونسائهم - وذكر الزهري أن الناس على ذلك - وذكر الشعبي ذلك عن القضاء جملة - وروي عن ابن عباس أنها تستحلف مع ذلك .

                                                                                                                                                                                          وصح عن معاوية : أنه قضى في دار بشهادة أم سلمة أم المؤمنين - رضي الله عنها - ولم يشهد بذلك غيرها .

                                                                                                                                                                                          وروينا عن عمر ، وعلي ، والمغيرة بن شعبة ، وابن عباس : أنهم لم يفرقوا بشهادة امرأة واحدة في الرضاع - وهو قول أبي عبيد ، قال : أفتي في ذلك بالفرقة - ولا أقضي بها .

                                                                                                                                                                                          وروينا عن عمر : أنه قال : لو فتحنا هذا الباب لم تشأ امرأة أن تفرق بين رجل وامرأته إلا فعلت .

                                                                                                                                                                                          وقال الأوزاعي : أقضي بشهادة امرأة واحدة ، قبل النكاح ، وأمنع من النكاح ، ولا أفرق بشهادتهما بعد النكاح .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : فكان من حجة من لم ير قبول النساء منفردات ، ولا قبول امرأة مع رجل إلا في الديون المؤجلة فقط ، أن قالوا : أمر الله تعالى في الزنى بقبول أربعة ، وفي الديون المؤجلة برجلين ، أو رجل وامرأتين ، وفي الوصية في السفر باثنين من المسلمين ، أو باثنين من غير المسلمين يحلفان مع شهادتهما ، وفي الطلاق والرجعة بذوي عدل منا .

                                                                                                                                                                                          وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في التداعي في أرض { شاهداك أو يمينه ، ليس لك إلا ذلك } فلم يذكر الله تعالى ولا رسوله - عليه الصلاة والسلام - عدد الشهود وصفتهم إلا [ ص: 484 ] في هذه النصوص فقط ، فوجب الوقوف عندها ، وأن لا تتعدى ، وأن لا يقبل فيما عدا ذلك إلا ما اتفق المسلمون على قبوله .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : ما نعلم أحدا ممن يخالفنا اتبع في أقواله في الشهادات النصوص الثابتة من القرآن ، ولا من السنن ، ولا من الإجماع ، ولا من القياس ، ولا من الاحتياط ، ولا من قول الصحابة - رضي الله عنهم - فكل أقوال كانت هكذا فهي متخاذلة متناقضة باطل ، لا يحل القول بها في دين الله تعالى ، ولا يجوز الحكم بها ، في دماء المسلمين ، وفروجهم ، وأبشارهم ، وأموالهم ، وذلك أننا هبك أمسكنا الآن عن الاعتراض على احتجاجهم بالنصوص المذكورة ، لكن لنريهم - بحول الله تعالى وقوته - مخالفتهم لها جهارا - : أما أبو حنيفة : فأجاز شهادة النساء في النكاح ، والطلاق ، والرجعة مع رجل ، وليس هذا في شيء من الآيات ، بل فيها : { فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم } .

                                                                                                                                                                                          فمن أعجب شأنا ممن يرى خبر اليمين مع الشاهد خلافا لقول الله تعالى : { واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان } ولا يرى قوله بإجازة امرأتين مع رجل خلافا لقوله تعالى : { وأشهدوا ذوي عدل منكم } .

                                                                                                                                                                                          فإن قالوا : إن امرأة عدلة ورجلا عدلا يقع عليهما ذوي عدل منا ؟ قلنا : وشهادة ثلاثة رجال وامرأتين في الزنى يقع عليهم وعلى واحدة منهما أربعة شهداء ولا فرق .

                                                                                                                                                                                          ثم قبلوا شهادة امرأة واحدة حيث تقبل النساء منفردات ولم يقبلوها في الرضاع حيث جاءت السنة بقبولها - وبه قال جمهور السلف .

                                                                                                                                                                                          فإن قالوا : قسنا ذلك على الديون المؤجلة [ ص: 485 ]

                                                                                                                                                                                          قلنا : فقيسوا الحدود في ذلك والقصاص على الديون المؤجلة ولا فرق فإن ادعوا إجماعا على أن لا يقبلن في الحدود أكذبهم عطاء .

                                                                                                                                                                                          فإن قالوا : خالف جمهور العلماء : قلنا : وأنتم خالفتم في أن لا يقبلن النساء منفردات في الرضاع جمهور العلماء .

                                                                                                                                                                                          وأما مالك : فقاس بعض الأموال على الديون المؤجلة ولم يقس عليها العتق - وقبل امرأتين لا رجل معهما مع يمين الطالب في الأموال والقسامة - وما نعلم له سلفا في هذا روي عنه هذا القول .

                                                                                                                                                                                          وخالف جمهور العلماء في رد شهادة امرأة واحدة في الاستهلال .

                                                                                                                                                                                          وفي قبول امرأتين تقبل النساء منفردات .

                                                                                                                                                                                          وأما الشافعي : فقاس الأموال على الديون المؤجلة ؟ فيقال له : هلا قست سائر الأحكام على ذلك ؟ وما الفرق بين من قال : أقيس على ذلك كل حكم ، لأنه حكم وحكم ، وبين قولك أقيس على ذلك الأموال كلها ; لأنه مال ومال ، وهل هاهنا إلا التحكم ؟ فهذا خلافهم للنصوص ، وللقياس ، ولقول السلف ، وليس منهم أحد راعى الإجماع ; لأننا قد ذكرنا عن زفر أنه لا يقبل النساء منفردات في شيء من الأشياء .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية