الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          وقد حدثنا يونس بن عبد الله نا أبو بكر بن أحمد بن خالد نا أبي نا علي بن عبد العزيز نا أبو عبيد نا هشيم عن يونس بن عبيد عن الحسن البصري قال : الشهادة على القتل أربعة كالشهادة على الزنى .

                                                                                                                                                                                          وليت شعري من أين قاسوا القتل ، والقصاص ، والحدود على ما يقبل فيه رجلان فقط دون أن يقيسوها على الزنى الذي هو أشبه بها ; لأنه حد وحد ، ودم ودم - أو على ما يقبل فيه رجل وامرأتان ; لأنه حكم وحكم ، وشهادة وشهادة ؟ فظهر فساد قولهم بيقين .

                                                                                                                                                                                          فإذا قد سقطت الأقوال المذكورة فإن وجه الكلام والصدع بالحق : هو أن الله تعالى أمرنا عند التبايع بالإشهاد ، فقال تعالى : { وأشهدوا إذا تبايعتم } .

                                                                                                                                                                                          وأمرنا إذا تداينا بدين مؤجل أن نكتبه ، وأن نشهد شهيدين من رجالنا ، أو رجلا وامرأتين مرضيتين . [ ص: 486 ]

                                                                                                                                                                                          وأمرنا عند الطلاق والمراجعة بإشهاد ذوي عدل منا .

                                                                                                                                                                                          وليس في شيء من هذه النصوص ذكر ما نحكم به عند التنازع في ذلك والخصام من عدد الشهود ، إذ قد يموت الشاهدان أو أحدهما ، أو ينسيان أو أحدهما ، أو يتغيران أو أحدهما .

                                                                                                                                                                                          فمن أعجب شأنا أو أضل سبيلا ممن خالف أمر الله تعالى في الآيات المذكورة جهارا فقال : إذا تبايعتم فليس عليكم أن تشهدوا ؟ وإذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فلا تكتبوه إن شئتم .

                                                                                                                                                                                          ولا تشهدوا عليه أحدا إن أردتم ؟ ثم أراد التمويه بالنص المذكور فيما ليس فيه منه شيء فخالف الآية فيما فيها وادعى عليها ما ليس فيها - نعوذ بالله من البلاء .

                                                                                                                                                                                          فسقط تعلقهم بالنصوص المذكورة .

                                                                                                                                                                                          وأما قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : { شاهداك أو يمينه ، ليس لك إلا ذلك } فإن الحنفيين ، والمالكيين ، والشافعيين أول من يضم إلى هذا النص ما ليس فيه ، فيجيزون في الأموال كلها رجلا وامرأتين ، وليس ذلك في القرآن إلا في الديون المؤجلة فقط ، فقد زادوا على ما في هذا الخبر بقياسهم الفاسد .

                                                                                                                                                                                          وأما نحن : فطريقنا في ذلك غير طريقهم ، لكن نقول - وبالله تعالى نستعين - : قد صح عنه - عليه الصلاة والسلام - : ما رويناه من طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن منصور بن المعتمر ، والأعمش ، كلاهما عن أبي وائل { أن الأشعث دخل على عبد الله بن مسعود وهو يحدثهم بنزول قول الله تعالى : { إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا } فقال الأشعث : في نزلت ، وفي رجل خاصمته في بئر فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ألك بينة ؟ قلت : لا ، قال : فليحلف } .

                                                                                                                                                                                          فوجدناه - عليه الصلاة والسلام - قد كلف المدعي مرة شاهدين ; ومرة بينة مطلقة ، فوجب أن تكون البينة كل ما قال قائل من المسلمين إنه بينة . [ ص: 487 ]

                                                                                                                                                                                          ووجدنا الشاهدين العدلين يقع عليهما اسم بينة ، فوجب قبولهما في كل شيء ، حاش حيث ألزم الله تعالى أربعة فقط .

                                                                                                                                                                                          ووجدناه - عليه الصلاة والسلام - قال : ما رويناه من طريق مسلم بن الحجاج نا محمد بن رمح نا الليث هو ابن سعد - عن ابن الهادي عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في حديث { فشهادة امرأتين تعدل شهادة رجل } .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق البخاري نا سعيد بن أبي مريم نا محمد بن جعفر أخبرني زيد - هو ابن أسلم - عن عياض بن عبد الله عن أبي سعيد الخدري ، " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حديث : { أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل ؟ قلنا : بلى يا رسول الله } فقطع - عليه الصلاة والسلام - بأن شهادة امرأتين تعدل شهادة رجل ، فوجب ضرورة : أنه لا يقبل حيث يقبل رجل لو شهد إلا امرأتان ، وهكذا ما زاد .

                                                                                                                                                                                          فإن قيل : فهلا قبلتم بهذا الاستدلال رجلا واحدا ، فقد صح ذلك عن شريح ، ومطرف بن مازن ، وزرارة بن أوفى ، أو شهادة امرأة واحدة ، فقد قبلها معاوية ؟ قلنا : منعنا من ذلك حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم باليمين مع الشاهد ، فلو جاز قبول واحد حيث لم يقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم لكانت اليمين فضولا ، وحاش له من ذلك ، فصح : أنه لا يجوز قبول رجل واحد ، ولا امرأة واحدة إلا في الهلال كما ذكرنا في " كتاب الصيام " فقط وفي الرضاع .

                                                                                                                                                                                          لما روينا من طريق عبد الله بن ربيع نا محمد بن أبان البلخي ، ويعقوب بن إبراهيم ، قالا جميعا : نا إسماعيل بن إبراهيم - هو ابن علية - عن أيوب السختياني عن ابن أبي مليكة حدثني عبيد بن أبي مريم عن عقبة بن الحارث قال ابن أبي مليكة : وقد سمعته من عقبة بن الحارث ، ولكني لحديث عبيد أحفظ ، قال : { تزوجت امرأة فجاءت امرأة سوداء فقالت : إني قد أرضعتكما ؟ فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله إني تزوجت امرأة ، فجاءت امرأة سوداء فقالت إني قد أرضعتكما - وهي كاذبة - فأعرض [ ص: 488 ] عني ، فأتيته من قبل وجهه فقلت : إنها كاذبة ، فقال : كيف بها وقد زعمت أنها أرضعتكما ؟ دعها عنك } .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : فنهي النبي صلى الله عليه وسلم تحريم ، وروينا من طريق الحذافي نا عبد الرزاق قال : نا ابن جريج قال " قال ابن شهاب : جاءت امرأة سوداء إلى أهل ثلاثة أبيات تناكحوا فقالت : هم بني وبناتي ، ففرق عثمان - رضي الله عنه - بينهم .

                                                                                                                                                                                          وروينا عن الزهري أنه قال : فالناس يأخذون اليوم بذلك من قول عثمان في المرضعات إذا لم يتهمن .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق قتادة عن جابر بن زيد أبي الشعثاء عن ابن عباس قال : تجوز شهادة امرأة واحدة في الرضاع .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : وأما الخبر الذي صدرنا به من قول الزهري مضت السنة من النبي صلى الله عليه وسلم ومن أبي بكر ، وعمر : أن لا تجوز شهادة النساء في الطلاق ، ولا في النكاح ، ولا في الحدود : فبلية ; لأنه منقطع من طريق إسماعيل بن عياش - وهو ضعيف - عن الحجاج بن أرطاة - وهو هالك .

                                                                                                                                                                                          وأما الرواية عن عمر " لو فتحنا هذا الباب لم تشأ امرأة أن تفرق بين رجل وامرأته إلا فعلت ذلك " فهو عن الحارث الغنوي - وهو مجهول - أن عمر .

                                                                                                                                                                                          وأيضا - فإن هذا كلام بعيد عن عمر قول مثله ; لأنه لا فرق بين هذا وبين أن لا يشاء رجلان قتل رجل وإعطاء ماله لآخر ، وتفريق امرأته عنه إلا قدرا على ذلك ، بأن يشهدا عليه بذلك .

                                                                                                                                                                                          وبضرورة العقل يدري كل أحد : أنه لا فرق بين امرأة وبين رجل ، وبين رجلين ، وبين امرأتين ، وبين أربعة رجال ، وبين أربع نسوة ، في جواز تعمد الكذب والتواطؤ عليهم ، وكذلك الغفلة - ولو حينا - إلى هذا ، لكن النفس أطيب على شهادة ثماني نسوة منها على شهادة أربعة رجال . [ ص: 489 ]

                                                                                                                                                                                          وهذا كله لا معنى له ، إنما هو القرآن والسنة ولا مزيد .

                                                                                                                                                                                          وأما من احتج بتخصيص ما لا يجوز أن ينظر إليه الرجال فباطل ، وما يحل للمرأة من النظر إلى عورة المرأة إلا كالذي يحل للرجل من ذلك ، ولا يجوز ذلك إلا عند الشهادة أو الضرورة ، كنظرهم إلى عورة الزانيين ، والرجال والنساء في ذلك سواء - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          وأما اليمين مع الشاهد : فروينا عن عمر بن الخطاب أنه قضى باليمين مع الشاهد الواحد .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق ابن وهب عن أنس بن عياض أخبرني ضمرة : أن جعفر بن محمد أخبرهم قال : سمعت أبي يقول للحكم بن عتيبة : { قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم باليمين مع الشاهد } وقضى بها علي بين أظهركم .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق هشيم عن حصين بن عبد الرحمن : أن عبد الله بن عتبة بن مسعود قضى عليه بدين لإنسان أقام شاهدا واحدا وأحلفه مع شاهده .

                                                                                                                                                                                          وصح عن عمر بن عبد العزيز ، وعبد الرحمن بن عبد الحميد ، وعن شريح .

                                                                                                                                                                                          وروي عن جماعة : منهم سليمان بن يسار ، وأبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف ، وأبو الزناد ، وربيعة ، ويحيى بن سعيد الأنصاري ، وإياس بن معاوية ، ويحيى بن معمر ، والفقهاء السبعة ، وغيرهم - وهو قول مالك ، والشافعي ، إلا أنهما لا يقضيان بذلك إلا في الأموال .

                                                                                                                                                                                          وجاء عن عمر بن عبد العزيز : أنه قضى بذلك في جراح العمد والخطأ ; ويقضي به مالك أيضا في القصاص في النفس ولا يقضي به في العتق ، والشافعي يقضي به في العتق .

                                                                                                                                                                                          وروينا إنكار الحكم به عن الزهري ، وقال : هو بدعة ما أحدثه الناس أول من قضى به معاوية وقال عطاء : أول من قضى به عبد الملك بن مروان ، وأشار إلى إنكاره الحكم بن عتيبة .

                                                                                                                                                                                          وروي عن عمر بن عبد العزيز : الرجوع إلى ترك القضاء به ; لأنه وجد أهل الشام على خلافه ، ومنع منه : ابن شبرمة ، وأبو حنيفة ، وأصحابه .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : قد ذكرنا بطلان التعلق في رد هذا الحكم وغيره بالتعلق بقول الله تعالى : { واستشهدوا شهيدين من رجالكم } . [ ص: 490 ]

                                                                                                                                                                                          وبقوله تعالى : { وأشهدوا ذوي عدل منكم } في الفصل الذي قبل هذا .

                                                                                                                                                                                          وكذلك بقوله عليه الصلاة والسلام { شاهداك أو يمينه } وسائر ما تعلقوا به في منع الحكم بيمين وشاهد أهذار ، والعجب اعتراضهم في هذا بقول الزهري أول من قضى بذلك معاوية ، وهم قد أخذوا بقيمة أحدثها معاوية في زكاة الفطر ولا يصح فيها أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : وروينا من طريق مسلم نا أبو بكر بن أبي شيبة نا محمد بن بشر ، وعبد الله بن نمير ، قالا جميعا : نا سيف بن سليمان أخبرني قيس بن سعد عن عمرو بن دينار عن ابن عباس { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بيمين وشاهد } - : نا أحمد بن قاسم نا أبي قاسم بن محمد بن قاسم نا جدي قاسم بن أصبغ نا محمد بن سليمان المنقري نا مسدد ، ومحمد بن المثنى ، وعبد الله بن عبد الوهاب قالوا كلهم : نا عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد الله { أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى باليمين مع الشاهد } .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق أبي داود نا أبو المصعب نا عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن ربيعة ابن أبي عبد الرحمن عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة { أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى باليمين مع الشاهد } .

                                                                                                                                                                                          قال أبو داود : وزادني الربيع بن سليمان في هذا الخبر قال : أنا الشافعي عن عبد العزيز بن محمد الدراوردي قال : فذكرت ذلك لسهيل بن أبي صالح فقال : أخبرني ربيعة - وهو ثقة عندي - أني حدثته إياه ولا أحفظه ، قال عبد العزيز : وقد كانت أصابت سهيلا علة أذهبت بعض عقله ونسي بعض حديثه ، فكان سهيل بعد يحدثه عن ربيعة عن أبيه عن أبي هريرة .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : فهذه آثار متظاهرة لا يحل الترك لها ، فالواجب أن يحكم بذلك في الدماء والقصاص ، والنكاح ، والطلاق ، والرجعة ، والأموال ، حاشا الحدود ; لأن ذلك عموم الأخبار المذكورة ، ولم يأت في شيء من الأخبار منع من ذلك .

                                                                                                                                                                                          وأما الحدود : فلا طالب لها إلا الله تعالى ، ولا حق للمقذوف في إثباتها ، ولا في [ ص: 491 ] إسقاطها ، ولا في طلبها ، وكذلك المسروق منه ، والمزني بامرأته أو حريمته أو أمته ، أو غير ذلك - : فليس لذلك كله طالب بلا يمين في شيء منها .

                                                                                                                                                                                          وقال الشافعي : إن في بعض الآثار إن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بذلك في الأموال - وهذا لا يوجد أبدا في شيء من الآثار الثابتة - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          والعجب من أصحاب أبي حنيفة يقولون دهرهم كله : المرسل ، والمسند : سواء ، في كل بلية يقولون بها ، ثم يردون خبر جابر هذا : بأن غير الثقفي أرسله ، وأنه روي مرسلا من طريق سعيد بن المسيب ، وغيره ، فاعجبوا لعدم الحياء ورقة الدين .

                                                                                                                                                                                          وعجب آخر : وهو أنهم يقضون بالنكول في الدماء ، والأموال ، فيعطون المدعي بلا شاهد ولا يمين ، لكن بدعواه المجردة - وإن كان يهوديا أو نصرانيا - برأيهم الفاسد ، ويردون الحكم باليمين والشاهد ، ويقضون بالعظائم بشهادة امرأتين دون يمين الطالب بآرائهم الفاسدة ، واختيارهم المهلك ، وينكرون الحكم بشهادة امرأتين مع يمين الطالب ، وبشهادة رجل مع يمين الطالب ، وينكرون الحكم بشهادة مسلم ثقة مع يمين الطالب ، وهم يقضون بشهادة يهوديين ، أو نصرانيين حيث لم يأت بذلك نص قرآن ، ولا سنة صحيحة ، ويضعفون سيف بن سليمان - وهو ثقة - .

                                                                                                                                                                                          وهم آخذ الناس برواية كل كذاب ، كجابر الجعفي ، وغيره ، ويحتجون بمغيب ذلك عن الزهري وعطاء وقد غاب عنهما حكم زكاة الذهب وزكاة البقر ، أو علماه ورأياه منسوخا ، فلم يلتفتوا هنالك إلى قولهما ، وقلدوهما هاهنا ، وهذا كما ترون - ونسأل الله العاقبة ورأى مالك ، والشافعي : أن لا يقضى باليمين والشاهد ، إلا في الأموال .

                                                                                                                                                                                          قال مالك : وفي القسامة - وهذا لا معنى له ; لأنه تخصيص للخبر بلا دليل .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية