الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 465 ]

                والرخصة قد تجب ، كأكل الميتة عند الضرورة . وقد لا تجب ككلمة الكفر .

                ويجوز أن يقال : التيمم ، وأكل الميتة ، كل منهما رخصة عزيمة باعتبار الجهتين .

                التالي السابق


                قوله : " والرخصة قد تجب " ، إلى آخره . أي : أن الرخصة قد تنتهي إلى أن تصير واجبة " كأكل الميتة عند الضرورة " بناء على أن النفوس حق الله ، وهي أمانة عند المكلفين ، فيجب حفظها ليستوفي الله تعالى حقه منها بالعبادات والتكاليف ، وقد لا تنتهي إلى الوجوب ، ككلمة الكفر إذا أكره عليها ، فله أن يأتي بها حفظا لنفسه مع طمأنينة قلبه بالإيمان ، وله أن لا يأتي بها إرغاما لمن أكره وإعزازا للدين .

                نعم ، النزاع في أيهما أفضل متجه ، فيحتمل أن يقال : الإجابة أفضل : حفظا للنفس واستيفاء لحق الله تعالى فيها ، ويحتمل أن يقال : الامتناع أفضل . وقد نص أحمد في رواية جعفر بن محمد في الأسير يخير بين القتل وشرب الخمر ، فقال : إن صبر ، فله الشرف ، وإن لم يصبر فله الرخصة . وقال القاضي أبو يعلى في " أحكام القرآن " : الأفضل أن لا يعطي التقية ، ولا يظهر الكفر حتى يقتل . واحتج بقصة عمار وخبيب بن عدي ، حيث لم يعط أهل مكة التقية حتى قتل ، فكان عند المسلمين أفضل من عمار .

                قلت : العجب من أصحابنا يرجحون الأخذ بالرخصة في الفطر ، وقصر الصلاة [ ص: 466 ] في السفر ، مع يسارة الخطب فيهما ، ويرجحون العزيمة فيما يأتي على النفس ، كالإكراه على الكفر ، وشرب الخمر ، فإما أن يرجحوا الرخصة مطلقا أو العزيمة مطلقا . أما الفرق ، فلا يظهر له كبير فائدة . فإن قيل : بل له فائدة عظيمة ، وهو أن المقصود من الأخذ بالرخصة ، أو العزيمة هو العبادة ، ففي أيهما كانت العبادة أعظم ، رجحنا الأخذ به ، والعبادة في الصبر على القتل دون كلمة الكفر أعظم ، لأنه جهاد في سبيل الله ، وجود بالنفس في محبته ، فالجواب من وجهين :

                أحدهما : أنه يبطل بالصوم في السفر ، فإنه أعظم عبادة ، وقد رجحتم الفطر عليه .

                الثاني : أن العبادة في استيفاء حق الله تعالى في النفس أعظم ، لأنها إذا بقيت وجد منها في العبادات المتكررة المتعددة الأنواع أضعاف ما يحصل من ترك التلفظ بكلمة الكفر من العبادة . والله تعالى أعلم .

                تنبيه : قد يكون سبب الرخصة اختياريا ، كالسفر ، واضطراريا ، كالاغتصاص باللقمة المبيح لشرب الخمر ، وهذا أولى من قول القرافي : قد يباح سببها ، كالسفر ، وقد لا يباح ، كالغصة لشرب الخمر ، لأن الغصة أمر ضروري لا يوصف بإباحة ولا حظر .

                قوله : " ويجوز أن يقال : التيمم وأكل الميتة ، كل منهما رخصة عزيمة ، باعتبار الجهتين .

                قلت : هذا متعين ، ولكني تسامحت بقولي : يجوز ، لأن كل واحد من التيمم [ ص: 467 ] وأكل الميتة مشتمل على الجهتين يقينا .

                أما من جهة الرخصة : فمن حيث يسر الله سبحانه وتعالى على المكلف ، وسهل عليه ، وسامحه في أداء العبادة مع الحدث المانع ، ولم يشق عليه بطلب الماء حيث يتعذر أو يشق ، ولم يأمره بإعادة الصلاة إذا صلاها بالتيمم ، وحيث سامحه في استبقاء نفسه بأكل الميتة ، ولم يشق عليه بإيجاب الصبر عنها حتى يموت ، ولهذا قال تعالى : فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم [ المائدة : 3 ] ، إشارة إلى أن إباحة المحرم في المخمصة رحمة منه لهم .

                وأما جهة العزيمة : فمن جهة أنه - أعني التيمم - شرط لأداء الصلاة الواجبة ، وشرط الواجب واجب ، والواجب عزيمة ، فالتيمم عزيمة ، وأكل الميتة وسيلة إلى استيفاء حق الله تعالى الواجب في النفس ، ووسيلة الواجب واجبة ، فأكل الميتة في المخمصة إذا خيف على النفس بدونه واجب .

                وبالجملة ، فالنفس يتعلق بها حقان : حق الله سبحانه وتعالى ، وحق المكلف . فكل تخفيف تعلق بالحقين ، فهو بالإضافة إلى حق الله سبحانه وتعالى عزيمة ، وبالإضافة إلى حق المكلف رخصة ، والله سبحانه وتعالى أعلم .




                الخدمات العلمية