الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          العلاوة الثانية :

                          ( حادثة الطوفان في القرآن والتوراة والتاريخ القديم )

                          بينا مرارا أن أحداث التاريخ وضبط وقائعه وأزمنتها وأمكنتها ليس من مقاصد القرآن ، وأن ما فيه من قصص الرسل مع أقوامهم فإنما هو بيان لسنة الله فيهم ، وما تتضمنه من أصول الدين والإصلاح التي أجملناها في بيان حكمة التحدي بعشر سور منه من تفسير هذه السورة ، بعشر جمل جامعة لأنواع المعارف والفوائد والعبر والمواعظ والنذر المتفرقة .

                          وبينا أن قصة نوح - عليه السلام - جاءت في عدة سور في كل سورة منها ما ليس في سائرها من ذلك ، ولهذا لم يذكر فيها من حادثة الطوفان إلا ما فيه العبرة والموعظة المقصودة بالذات منها ، فذكرت في بعضها بآية وفي بعضها بآيتين فما فوقهما من جمع القلة ، وما في هذه السورة هو أطولها وأجمعها .

                          قصة نوح في سفر التكوين :

                          وأما قصة نوح في سفر التكوين وهو السفر الأول من الأسفار التي يسمونها التوراة ، فهي قصة تاريخية وردت في سياق أنساب ذرية آدم وتسلسلها في السنين المعدودة ، إلى أن تتصل ببني إسرائيل المقصودين بالذات المؤلفة دون غيرهم من البشر ، وهذا التاريخ نقضه من أساسه علم الجيولوجية وما كشف من آثار الإنسان المتحجرة وغيرها .

                          في الفصل الأول من سفر التكوين بيان خلق السماوات والأرض في ستة أيام في سادسها خلق آدم ، وفي الفصل الثاني تفصيل لما خلق الله في الأرض ، ومنه أنه غرس جنة في عدن شرقا ووضع فيها آدم ، وفي آخره ذكر خلق حواء من ضلع من أضلاع آدم اليسرى ، وفي الفصل الثالث خبر معصية آدم بأكله من شجرة الحياة طاعة لامرأته التي أغوتها الحية وحملتها على الأكل منها ، وفي الفصل الرابع تناسل آدم وحواء ، وفي الخامس مواليد آدم [ ص: 85 ] إلى نوح وهو البطن التاسع من ذريته ، وكان بين خلق آدم وولادة نوح 1056 سنة منها 930 سنة مدة حياة آدم - عليه السلام - .

                          وأما قصة نوح - عليه السلام - فاستغرقت فيه أربعة فصول من 6 - 9 في آخر التاسع منها أن نوحا عاش 950 سنة ، وفي أول السادس بيان سبب الطوفان ، وهو بمعنى ما في القرآن إلا أنه بأسلوب تلك الكتب التي تشبه الله - تعالى - بالإنسان في الصورة والمعنى ، أو ما تكرر فيه من أنه خلق آدم على صورته ( 1 : 26 وقال الله نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا فيتسلطون على سمك البحر وعلى طير السماء و 27000 فخلق الله الإنسان على صورته ، على صورة الله خلقه ذكرا وأنثى ) وهذا ما يعنينا في هذا السفر من قصة نوح .

                          ( 6 : 5 ورأى الرب أن شر الإنسان قد كثر في الأرض وأن كل تصور أفكار قلبه إنما هو شرير كل يوم 6 فحزن الرب أنه عمل الإنسان في الأرض وتأسف في قلبه 7 فقال الرب : أمحو عن وجه الأرض الإنسان الذي خلقته ، الإنسان مع بهائم ودبابات وطيور السماء لأني حزنت عليهم أني عملتهم 8 وأما نوح فوجد نعمة في عيني الرب 9 هذه . مواليد نوح : كان نوح رجلا بارا كاملا في أجياله وسار نوح مع الله 10 وولد نوح ثلاثة بنين : ساما وحاما ويافث 11 وفسدت الأرض أمام الله وامتلأت ظلما 12 ورأى الله الأرض فإذا هي قد فسدت إذ كان كل بشر قد أفسد طريقه على الأرض 13 فقال الله لنوح : نهاية كل بشر قد أتت أمامي لأن الأرض امتلأت ظلما منهم فها أنا مهلكهم مع الأرض 14 اصنع لنفسك فلكا من خشب جفر إلخ .

                          وهاهنا وصف طول الفلك وعرضه وارتفاعه وبابه في جانبه وطبقاته الثلاث ، ومن يدخل فيه معه وهم امرأته وبنوه الثلاثة وأزواجهم الثلاث ، ومن كل حي من كل ذي جسد زوجين اثنين ، وكل من يبقى في الأرض وتحت السماء يهلك ، وقد كرر ذكر من يدخل الفلك ، وذكر تاريخ دخول الفلك من عمر نوح ، ومدة المطر وهو أربعون يوما ، ومقدار ارتفاع الفلك فوق الجبال وهو 15 ذراعا ، وبقاء المياه على الأرض 150 يوما .

                          كل ذلك في الفصلين السادس والسابع ، وذكر في الفصل الثامن رجوع المياه عن الأرض بالتدريج ، واستقرار الفلك على جبال أراراط ، وما كان من خروج نوح ومن معه من السفينة ( قال ) 8 : 20 وبنى نوح مذبحا للرب ، وأخذ من كل البهائم الطاهرة ومن كل الطيور الطاهرة وأصعد محرقات على المذبح 21 فتنسم الرب رائحة الرضى ، وقال الرب في قلبه : لا أعود ألعن الأرض أيضا من أجل الإنسان ; لأن تصور قلب الإنسان شرير منذ حداثته ، [ ص: 86 ] ولا أعود أيضا أميت كل حي كما فعلت 22 مدة كل أيام الأرض زرع وحصاد وبرد وحر وصيف وشتاء ونهار وليل لا تزال ) .

                          وفي الفصل التاسع مباركة الله لنوح وبنيه وإكثارهم ليملئوا الأرض ، وتأمينهم من عودة الطوفان بإعطائهم ميثاقه وهو قوس السحاب ، بل جعلها أمانا لكل الأحياء ، وقال في أبناء نوح 9 ، 19 هؤلاء الثلاثة بنو نوح ومن هؤلاء تشعبت كل الأرض ) وفيه أن الرب لعن كنعان بن يافث وجعله وذريته عبيدا لذرية سام وحام لأنه نظر إلى عورة جده نوح إذ تعرى وهو سكران .

                          هذه خلاصة قصة نوح في سفر التكوين ، وليس فيها أنه كان رسولا ولا أنه دعا قومه إلى الله ، ولا أنه آمن معه أحد ، ولا أنه كان له ولد كافر غرق مع قومه ولا امرأة كافرة ، ولا ندري أكان كفرها قبل الطوفان فغرقت أم بعده . ولكنه يوافق القرآن في أن سبب الطوفان غضب الله على البشر بفسادهم وظلمهم ، ولكن بأسلوبه المشبه لله سبحانه بالإنسان في صفاته الباطنة كصورته الظاهرة .

                          عمر نوح وتعليل طوله كأعمار من قبله :

                          ويوافق القرآن سفر التكوين تقريبا في عمر نوح وهو 950 سنة ، ولكن نص القرآن أنه لبث في قومه هذه المدة . وهي مسألة قد اشتبه فيها الناس منذ قرون ، حتى زعم بعضهم أن السنة عند المتقدمين أقل من السنة عند أهل القرون المعروفة بعد تدوين التاريخ ، كما أن الأيام والسنين في زمن التكوين أطول من هذه الأزمنة ، كما قال - تعالى - : ( وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون ) ( 22 : 47 ) وتقدم هذا في محله ، ولكن هذا القياس باطل فلا بد من دليل آخر ، والذي نراه في أعمار آدم وذريته إلى ما قبل الطوفان أو قبل ما كشف من آثار التاريخ لا يقاس بما عرف بعد ذلك ; لأن طبيعة العمران ومعيشة الإنسان الفطرية كانت أسلم للأبدان ، وأقل توليدا للأمراض ، وقول الله هو الحق ويجب الإيمان به على كل حال .

                          سفر التكوين ليس من توراة موسى : وسفر التكوين هذا ليس حجة قطعية فيما ذكر فيه فضلا عما سكت عنه ، فإن التوراة التي كتبها موسى - عليه السلام - ووضعها بجانب تابوت العهد كما ذكر في سفر التثنية قد فقدت هي والتابوت بحريق الهيكل ، وهذه الأسفار المعتمدة عند اليهود قد كتبت كلها بعد الرجوع من سبي بابل في سنة 536 قبل ميلاد المسيح - عليه السلام - ، ويقولون إن عزرا هو الذي كتبها وجمعها ، وليس لها سند متصل إليه وعم اتصالها بمن قبله ، وقد اشتهر أن الأستاذ جبر ضومط مدرس البلاغة في الجامعة الأمريكانية ببيروت ألف رسالة رجح فيها أن سفر التكوين [ ص: 87 ] مأثور عن يوسف - عليه السلام - ولما نطلع عليه ، وجملة القول أنه ليس له سند إلى من كتبه ، ولا يقوم دليل على أنه وحي من الله - تعالى - ، ولكنه على كل حال أثر تاريخي قديم له قيمته .

                          وأما القرآن فقد قامت البراهين على أنه كلام الله ووحيه إلى محمد رسول الله وخاتم النبيين كما فصلناه في مواضع كثيرة أجمعها ( كتاب الوحي المحمدي ) .

                          الإسرائيليات في تفسير قصة نوح :

                          وأما ما حشا المفسرون به تفاسيرهم من الروايات في هذه القصة وغيرها عن الصحابة والتابعين وغيرهم فلا يعتد بشيء منه ، ولم يرفع منه شيء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بسند صحيح ولا حسن . وأمثل ما روي فيه حديث عائشة في صنع السفينة ، وأم الولد الكافر الذي رفعته لينجو فغرق معها ، وهو ضعيف كما تقدم ، وأنكر منه ما رواه ابن جرير عن ابن عباس من إحياء عيسى - عليه السلام - بطلب الحواريين لحام بن نوح وتحديثه إياهم عن السفينة في طولها وعرضها وارتفاعها وطبقاتها وما في كل منها ، ودخول الشيطان فيها بحيلة احتال بها على نوح ، ومن ولادة خنزير وخنزيرة من ذنب الفيل ، وسنور وسنورة ( قط وقطة ) من منخر الأسد ، وكل ذلك من الأباطيل الإسرائيلية المنفرة عن الإسلام ، وقد رواه من طريق علي بن زيد بن جدعان ، وقد ضعفه الأئمة كأحمد ويحيى وغيرهم ، وقال ابن عدي : كان يغلو في التشيع ومع ذلك يكتب حديثه . أقول : وحسبهم هذه الرواية حجة عليه .

                          خبر الطوفان في الأمم القديمة :

                          وقد ورد في تواريخ أكثر الأمم القديمة ذكر للطوفان ، منها الموافق لخبر سفر التكوين إلا قليلا ، ومنها المخالف له إلا قليلا ، وأقرب الروايات إليه رواية الكلدانيين وهم الذين وقع الطوفان في بلادهم ، فقد نقل عنهم برهوشع ويوسفوس أن زيزستروس رأى في الحلم بعد موت والده أوتيرت أن المياه ستطغى وتغرق جميع البشر ، وأمره ببناء سفينة يعتصم فيها هو وأهل بيته وخاصة أصدقائه ففعل ، وهو يوافق سفر التكوين في أنه كان في الأرض جيل من الجبارين طغوا فيها وأكثروا الفساد فعاقبهم الله بالطوفان ، وقد عثر بعض الإنكليز على ألواح من الآجر نقشت فيها هذه الرواية بالحروف المسمارية في عصر أشور بانيبال من نحو 660 سنة قبل ميلاد المسيح ، وأنها منقولة من كتابة قديمة من القرن السابع عشر قبل المسيح أو قبله ، فهي أقدم من سفر التكوين .

                          وروى اليونان خبرا عن الطوفان أورده أفلاطون ، وهو أن كهنة المصريين قالوا [ ص: 88 ] لسولون ( الحكيم اليوناني ) إن السماء أرسلت طوفانا غير وجه الأرض فهلك البشر مرارا بطرق مختلفة فلم يبق للجيل الجديد شيء من آثار من قبله ومعارفهم .

                          وأورد مانيتون خبر طوفان حدث بعد هرمس الأول الذي كان بعد ميناس الأول ، وهذا أقدم من تاريخ التوراة أيضا .

                          وروي عن قدماء اليونان خبر طوفان عم الأرض كلها إلا دوكاليون وامرأته بيرا فقد نجوا منه ، وروي عن قدماء الفرس طوفان أغرق الله به الأرض بما انتشر فيها من الفساد والشرور بفعل ( أهريمان ) إله الشر ، وقالوا إن هذا الطوفان فار أولا من تنور العجوز ( زول كوفه ) إذ كانت تخبز خبزها فيه ، ولكن المجوس أنكروا عموم الطوفان وقالوا إنه كان خاصا بإقليم العراق ، وانتهى إلى حدود كردستان .

                          وكذا قدماء الهنود يثبتون وقوع الطوفان سبع مرات في شكل خرافي ، آخرها أن ملكهم نجا هو وامرأته في سفينة عظيمة أمره بصنعها إلهه فشنو وشدها بالدسر حتى استوت على جبل جيمافات ( حملايا ) ولكن البراهمة كالمجوس ينكرون وقوع طوفان عام أغرق الهند كلها . ويروى تعدد الطوفان عن اليابان والصين وعن البرازيل والمكسيك وغيرهما ، وكل هذه الروايات تتفق في أن سبب ذلك عقاب الله للبشر بظلمهم وشرورهم .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية