الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          قصة صالح عليه السلام :

                          هو النبي الرسول الثاني من العرب ، وتقدم ذكر قصته في سبع آيات من سورة الأعراف ، ذكرت في أول تفسيرها مساكن قبيلته ثمود وهي : الحجر بين الحجاز والشام ، وهاهي ذي قد ذكرت هنا في ثماني آيات تضاهي تلك السبع ، وستجيء في 19 آية من سورة الشعراء أقصر من آيات هاتين السورتين ، ثم في تسع من سورة النمل تناهز آيات الأعراف ، ثم في تسع من سورة القمر قصار ، وذكرت قبلهن في خمس من سورة الحجر ، وبعدهن في خمس من سورة الشمس ، وثلاث من سورة الذاريات ، وثنتين من سورة النجم ، وفي كل من الموعظة والعبرة في موضعها ما يليق بها ، ولا يغني عنها غيرها .

                          [ ص: 101 ] وإلى ثمود أخاهم صالحا قال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب ( 61 ) قالوا ياصالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب ( 62 ) قال ياقوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة فمن ينصرني من الله إن عصيته فما تزيدونني غير تخسير ( 63 )

                          هذه الآيات الثلاث في تبليغ دعوة صالح لقومه وردهم لها واحتجاجه عليهم .

                          - وإلى ثمود أخاهم صالحا قال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره - هذا نص ما تقدم في تبليغ هود عليه السلام ، ثم قال : - هو أنشأكم من الأرض - أي هو بدأ خلقكم من الأرض بخلق أبيكم آدم منها مباشرة ، ثم يخلق كل منكم من سلالة من طين الأرض ، فإن النطفة التي تتحول في الرحم إلى علقة فمضغة فهيكل عظمي يحيط به لحم هي من الدم ، والدم من الغذاء ، والغذاء الغالب إما نبات من الأرض ، وإما لحم يرجع إلى النبات في طور واحد أو أكثر - واستعمركم فيها - أي : وجعلكم عمارا فيها من العمران ، فقد كانوا زراعا وصناعا وبنائين : وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا آمنين 15 : 82 وقيل : من العمر ، أي أطال أعماركم فيها ، والصحيح الأول ، واستعمل الاستعمار في عصرنا بمعنى استيلاء الدول القوية على بلاد المستضعفين واستثمارها واستعباد أهلها لمصالحهم ، والمراد أنه هو المنشئ لخلقكم والممدكم بأسباب العمران والنعم فيها ، فلا يصح أن تعبدوا فيها غيره ; لأنه هو صاحب الفضل كله ، والمستحق للعبادة وحده - فاستغفروه ثم توبوا إليه - أي : فاسألوه أن يغفر لكم ما أشركتم وما أجرمتم ، ثم توبوا وارجعوا إليه كلما وقع منكم ذنب أو خطأ ، وتقدم مثله في دعوة هود قريبا وفي دعوة محمد - صلى الله عليه وسلم - في أول السورة - إن ربي قريب مجيب - قريب من عباده لا يخفى عليه شيء من استغفارهم ، والباعث عليه من أحوالهم ، [ ص: 102 ] مجيب لدعاء من دعاه مؤمنا مخلصا له الدين كما قال في سورة البقرة : - وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان 2 : 186 فيراجع تفسيرها المفصل هنالك .

                          - قالوا ياصالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا - أي : قد كنت موضع رجائنا لمهمات أمورنا ، لما لك من المكانة في بيتك وفي صفاتك الشخصية من العقل والرأي ، قبل هذا الذي تدعونا إليه من تبديل ديننا بما تزعم من بطلانه فانقطع رجاؤنا منك - أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا - ؟ الاستفهام للإنكار والتعجب ، أي : أتنهانا أن نعبد ما كان يعبد آباؤنا من قبلنا واستمر فينا لا ينكره ولا يستقبحه أحد ؟ فالآباء يشمل الغابرين والحاضرين ، ولو قالوا : ما عبد آباؤنا لما أفاد هذا ، فلا حاجة إلى القول بأن التعبير بالمضارع حكاية مصورة للحال الماضية في صورة الحاضرة - وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب - أي : وإنا لواقعون في شك مما تدعونا إليه من عبادة الله وحده لا نتوسل إليه بأحد من أوليائه وأحبائه الشفعاء لنا عنده المقربين لنا إليه ، ولا بتعظيم ما وضعه آباؤنا لهم من الصور والتماثيل المذكرة بهم ، لا ندري مرادك وغرضك منه ، فإنه موجب للريب وسوء الظن . قال في المصباح المنير : الريب : الظن والشك ، ورابني الشيء يريبني إذا جعلك شاكا ، قال أبو زيد : رابني من فلان أمر يريبني ريبا : إذا استيقنت منه الريبة ، فإذا أسأت به الظن ولم تستيقن منه الريبة ، قلت : أرابني منه أمر هو فيه إرابة ، وأرابني فلان إرابة فهو مريب : إذا بلغك عنه شيء أو توهمته اهـ .

                          - قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة - تقدم مثل هذا حكاية عن نوح في الآية 28 إلا أنه قال : - رحمة من عنده - أي : أخبروني عن حالي معكم إن كنت على حجة واضحة قطعية من ربي فيما أدعوكم إليه ، ووهبني رحمة خاصة منه جعلني بها نبيا مرسلا إليكم - فمن ينصرني من الله إن عصيته - بكتمان الرسالة أو ما يسوءكم من بطلان عبادة أصنامكم وأوثانكم تقليدا لآبائكم ؟ أي لا أحد ينصرني من الله ويدفع عني عقابه في هذه الحالة ، وإذن لا أبالي بفقد رجائكم في ، ولا بما أنتم فيه من شك وارتياب في أمري - فما تزيدونني غير تخسير - أي ما تزيدونني بحرصي على رجائكم في واتقاء سوء ظنكم وارتيابكم ، غير إيقاع في الخسران بإيثار ما عندكم على ما عند الله ، واشتراء رضاكم بسخط الله - تعالى - ، أو غير إيقاع في الهلاك ، قال في مجاز الأساس : وخسره سوء عمله : أهلكه ، وفي المصباح المنير : وخسرت فلانا بالتثقيل أبعدته ، وخسرته : نسبته إلى الخسران ، مثل كذبته بالتثقيل إذا نسبته إلى الكذب ، مثله فسقته وفجرته إذا نسبته إلى هذه الأفعال ، وقال الفراء في الجملة : فما تزيدونني غير تضليل وإبعاد من الخير ، وقال مجاهد وعطاء الخراساني : ما تزدادون أنتم إلا خسارا . انتهى . . . ولعل مرادهما : ما تزيدونني بقولكم إلا علما بخساركم باستبدال الشرك بالتوحيد .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية