الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              1984 [ 1033 ] وعن أبي أيوب الأنصاري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال كان كصيام الدهر .

                                                                                              رواه أحمد (5 \ 417)، ومسلم (1164)، وأبو داود (2433)، والترمذي (759)، وابن ماجه (1716) .

                                                                                              [ ص: 236 ]

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              [ ص: 236 ] وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال كان كصيام الدهر ) ; هذا الحديث خرجه النسائي من حديث ثوبان ، وقال فيه : قال - صلى الله عليه وسلم - : (صيام شهر رمضان بعشرة أشهر ، وصيام ستة بشهرين ، فذلك صيام سنة) ، وفي رواية أخرى : (الحسنة بعشر ، فشهر رمضان بعشرة أشهر ، وستة بعد الفطر تمام السنة) . وذكره أيضا أبو عمر بن عبد البر هكذا .

                                                                                              فإن قيل : فيلزم على هذا مساواة الفرض النفل في تضعيف الثواب ، وهو خلاف المعلوم من الشرع ; إذ قد تقرر فيه : أن أفضل ما تقرب به المتقربون إلى الله تعالى ما افترض عليهم . وبيان ذلك : أنه قد تقدم : أن صيام ثلاثة أيام من كل شهر صيام الدهر ; أي : السنة ، وهذه الثلاثة تطوع بالاتفاق ، فقد لزم مساواة الفرض للنفل في الثواب .

                                                                                              والجواب : على تسليم ما ذكر - من أن ثواب الفرض أكثر - أن نقول : إن صيام ثلاثة من كل شهر إنما صار بمنزلة صيام سنة بالتضعيف ; لأن المباشر من أيامها بالصوم ثلاثة أعشارها ، ثم لما جعل كل يوم بمنزلة عشر كملت السنة بالتضعيف . وأما صوم رمضان مع الستة : فيصح أن يقال فيه أنه بمنزلة سنة بوشرت بالصوم أيامها ، ثم ضوعفت كل يوم من أيام السنة بعشرة ، فيضاعف العدد ، فصارت هذه السنة بمنزلة [ ص: 237 ] عشر سنوات بالتضعيف ، وذلك أن السنة ثلاثمائة وستون يوما ، فإذا ضربت ثلاثمائة وستين في عشرة صارت ثلاثة آلاف وستمائة .

                                                                                              وإنما صرنا إلى هذا التأويل للحديث الصحيح المتقدم في تفضيل الفرض على غيره ، ولما علم من الشرع : أن أجر الثواب على العمل على القرب محدود بعشر ، وأما أكثره فليس بمحدود ; لقوله تعالى : والله يضاعف لمن يشاء بعد ذكر مراتب التضعيف المذكورة في الآية ; التي هي : عشر ، وسبعون ، وسبعمائة ، والمضاعفة المطلقة ، وكذا قال - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه ابن عباس رضي الله عنهما : (الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، إلى أضعاف كثيرة) ، والله تعالى أعلم .

                                                                                              وقد أخذ بظاهر هذا الحديث - أعني : حديث أبي - جماعة من العلماء ، فصاموا هذه الستة إثر يوم الفطر ; منهم : الشافعي ، وأحمد بن حنبل . وكره مالك وغيره ذلك ، وقال في " موطئه " : لم أر أحدا من أهل العلم والفقه يصومها ، ولم يبلغني ذلك عن أحد من السلف ، وأهل العلم يكرهون ذلك ، ويخافون بدعته ، وأن يلحق برمضان ما ليس منه أهل الجهالة والجفاء .

                                                                                              قلت : ويظهر من كلام مالك هذا: أن الذي كرهه هو وأهل العلم ، الذين أشار إليهم ، إنما هو أن توصل تلك الأيام الستة بيوم الفطر ، لئلا يظن أهل الجهالة والجفاء أنها بقية من صوم رمضان . وأما إذا باعد بينها وبين يوم الفطر فيبعد ذلك التوهم ، وينقطع ذلك التخيل .

                                                                                              ومما يدل على اعتبار هذا المعنى : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد [ ص: 238 ] حمى حماية الزيادة في رمضان من أوله بقوله : (إذا دخل النصف من شعبان فأمسكوا عن الصوم) ، وبقوله : (لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم ولا يومين) . وإذا كان هذا في أوله فينبغي أن تحمى الذريعة أيضا من آخره ، فإن توهم الزيادة فيه أيضا متوقع ، فأما صومها متباعدة عن يوم الفطر ، بحيث يؤمن ذلك المتوقع فلا يكرهه مالك ولا غيره . وقد روى مطرف عن مالك : أنه كان يصومها في خاصة نفسه . قال مطرف : وإنما كره صيامها لئلا يلحق أهل الجهالة ذلك برمضان ، فأما من رغب في ذلك لما جاء فيه فلم ينهه .

                                                                                              وقال بعض علمائنا : لو صام هذه الستة في غير شوال لكانت إذا ضمت إلى صوم رمضان صيام الدهر ; لأن الحسنة بعشر أمثالها ، كما ذكره في الحديث ، وإنما خص شوال بالذكر لسهولة الصوم فيه ; إذ كانوا قد تعودوه في رمضان .

                                                                                              وقوله : ( ثم أتبعه ستا من شوال ) ; ليس فيه دليل على أنها تكون متصلة بيوم الفطر ، بل لو أوقعها في وسط شوال ، أو آخره ، لصلح تناول هذا اللفظ له ; لأن (ثم) للتراخي ، وكل صوم يقع في شوال فهو متبع لرمضان ، وإن كان هنالك مهلة . وقد دل على صحة هذا قوله في حديث النسائي : (وستة بعد الفطر) ، ولذلك نقول : إن الأجر المذكور حاصل لصائمها ; مجموعة أوقعها أو مفترقة ; لأن كل يوم بعشرة مطلقا ، والله تعالى أعلم .

                                                                                              قلت : وحديث أبي أيوب المتقدم ، وإن كان قد خرجه مسلم ليس بصحيح ، [ ص: 239 ] وهو من جملة الأحاديث الضعيفة الواقعة في كتابه ; وذلك لأن في إسناده : سعد بن سعيد بن قيس ; قال فيه النسائي : ليس بالقوي ، وغيره يضعفه ، كما ذكره الترمذي ، وقد انفرد به عن عمر بن ثابت ، قال أبو عمر بن عبد البر : أظن أن الشيخ عمر بن ثابت لم يكن عند مالك ممن يعتمد عليه .

                                                                                              وإنما أنث ( ستا ) ، وكان حقها أن تذكر من حيث : إن الصوم إنما يوقع في الأيام ، واليوم مذكر ; لأنه غلب على الأيام الليالي ، كما تفعله العرب ; لأن أول الشهر ليله ، وكذلك الصوم : إنما يعزم عليه غالبا بالليل ، وفيه حجة للمالكية في اشتراط نية التبييت في صوم النفل ، والله تعالى أعلم .




                                                                                              الخدمات العلمية