الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور . الذي أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور . وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير إن الله عالم غيب السماوات والأرض إنه عليم بذات الصدور هو الذي جعلكم خلائف في الأرض فمن كفر فعليه كفره ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا مقتا ولا يزيد الكافرين كفرهم إلا خسارا

                                                                                                                                                                                                                                      ثم أخبر عما يقولون عند دخولها، وهو قوله: الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن الحزن و الحزن واحد، كالبخل والبخل .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي المراد بهذا الحزن خمسة أقوال . أحدها: أنه الحزن لطول المقام في المحشر . روى أبو الدرداء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أما السابق، فيدخل الجنة بغير حساب، وأما المقتصد، فيحاسب حسابا يسيرا، وأما الظالم لنفسه، فإنه حزين في ذلك المقام " ، فهو الحزن والغم، وذلك قوله تعالى: الحمد لله الذي [ ص: 492 ] أذهب عنا الحزن .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: أنه الجوع، رواه أبو الدرداء أيضا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، [ولا يصح]، وبه قال شمر بن عطية . وفي لفظ عن شمر أنه قال: الحزن: هم الخبز، وكذلك روي عن سعيد بن جبير أنه قال: الحزن: هم الخبز في الدنيا .

                                                                                                                                                                                                                                      والثالث : أنه حزن النار، رواه أبو الجوزاء عن ابن عباس .

                                                                                                                                                                                                                                      والرابع : حزنهم في الدنيا على ذنوب سلفت منهم، رواه عكرمة عن ابن عباس .

                                                                                                                                                                                                                                      والخامس: حزن الموت، قاله عطية .

                                                                                                                                                                                                                                      والآية عامة في هذه الأقوال وغيرها، ومن القبيح تخصيص هذا الحزن بالخبز وما يشبهه، وإنما حزنوا على ذنوبهم وما يوجبه الخوف .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 493 ] قوله تعالى: الذي أحلنا أي: أنزلنا دار المقامة قال الفراء: المقامة هي الإقامة، والمقامة: المجلس، بالفتح لا غير، قال الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                      يومان يوم مقامات وأندية ويوم سير إلى الأعداء تأويب



                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: من فضله قال الزجاج: أي: بتفضله، لا بأعمالنا . والنصب: التعب . واللغوب: الإعياء من التعب . ومعنى " لغوب " : شيء يلغب; أي: لا نتكلف شيئا نعنى منه .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: لا يقضى عليهم فيموتوا أي: يهلكون فيستريحوا مما هم فيه، ومثله: فوكزه موسى فقضى عليه [القصص: 51] .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 494 ] قوله تعالى: كذلك نجزي كل كفور وقرأ أبو عمرو: " يجزى " بالياء " كل " برفع اللام . وقرأ الباقون: " نجزي " بالنون " كل " بنصب اللام .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: وهم يصطرخون فيها وهو افتعال من الصراخ: والمعنى: يستغيثون، فيقولون: ربنا أخرجنا نعمل صالحا أي: نوحدك ونطيعك غير الذي كنا نعمل من الشرك والمعاصي; فوبخهم الله تعالى بقوله: أولم نعمركم قال أبو عبيدة: معناه التقرير، وليس باستفهام; والمعنى: أو لم نعمركم عمرا يتذكر فيه من تذكر؟!

                                                                                                                                                                                                                                      وفي مقدار هذا التعمير أربعة أقوال .

                                                                                                                                                                                                                                      أحدها: أنه سبعون سنة، قال ابن عمر: هذه الآية تعبير لأبناء السبعين .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: أربعون سنة .

                                                                                                                                                                                                                                      والثالث : ستون سنة، رواهما مجاهد عن ابن عباس، وبالأول منهما قال الحسن، وابن السائب .

                                                                                                                                                                                                                                      والرابع : ثماني عشرة سنة، قاله عطاء، ووهب بن منبه، وأبو العالية، وقتادة .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: وجاءكم النذير فيه أربعة أقوال .

                                                                                                                                                                                                                                      أحدها: أنه الشيب، قاله ابن عمر، وعكرمة، وسفيان بن عيينة; والمعنى: أو لم نعمركم حتى شبتم؟! . والثاني: النبي صلى الله عليه وسلم، قاله قتادة، وابن زيد، [ ص: 495 ] وابن السائب، ومقاتل . والثالث: موت الأهل والأقارب . والرابع: الحمى، ذكرهما الماوردي .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: فذوقوا يعني: العذاب فما للظالمين من نصير أي: من مانع يمنع عنهم . وما بعد هذا قد تقدم بيانه [المائدة: 7] إلى قوله: خلائف في الأرض وهي الأمة التي خلفت من قبلها ورأت فيمن تقدمها ما ينبغي أن تعتبر به فمن كفر فعليه كفره أي: جزاء كفره .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية