الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        [ ص: 174 ] باب التعزير

                                                                                                                                                                        هو مشروع في كل معصية ليس فيها حد ولا كفارة ، سواء كانت من مقدمات ما فيه حد ، كمباشرة أجنبية بغير الوطء ، وسرقة ما لا قطع فيه ، والسب والإيذاء بغير قذف ، أو لم يكن ، كشهادة الزور والضرب بغير حق ، والتزوير ، وسائر المعاصي ، وسواء تعلقت المعصية بحق الله تعالى أم بحق آدمي ، ثم جنس التعزير من الحبس أو الضرب جلدا أو صفعا إلى رأي الإمام ، فيجتهد ويعمل ما يراه من الجمع بينهما والاقتصار على أحدهما ، وله الاقتصار على التوبيخ باللسان على تفصيل يأتي إن شاء الله تعالى . قال الإمام : قال الأصحاب : عليه أن يراعي الترتيب والتدريج ، كما يراعيه دافع الصائل ، فلا يرقى إلى مرتبة وهو يرى ما دونها مؤثرا كافيا ، وأما قدر التعزير ، فإن كان من غير جنس الحد ، كالحبس ، تعلق باجتهاد الإمام ، وإن رأى الجلد فيجب أن ينقص عن الحد ، وفي ضبطه أوجه ، أحدها : أنه يفرق بين المعاصي وتقاس كل معصية بما يناسبها من الجناية الموجبة للحد ، فيعزر في الوطء المحرم الذي لا يوجب حدا ، وفي مقدمات الزنى دون حد الزنى ، وفي الإيذاء والسب بغير قذف دون حد القذف ، وفي إدارة كأس الماء على الشرب تشبيها بشاربي الخمر دون حد الخمر ، وفي مقدمات السرقة دون حد الزنى ، وعلى هذا فتعزير الحر يعتبر بحده ، والعبد بحده . والوجه الثاني : أن جميع المعاصي سواء ولا يزاد تعزير على عشر جلدات للحديث الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا يجلد أحد فوق عشرة أسواط إلا في حد " ، والثالث وهو الأصح عند الجمهور وظاهر النص : أنه تجوز الزيادة على عشرة بحيث ينقص عن أدنى حدود المعزر ، فلا يزاد تعزير حر على تسع وثلاثين جلدة ، ولا العبد على تسع عشرة ، [ ص: 175 ] والحديث قال بعضهم : إنه منسوخ ، واستدل بعمل الصحابة رضي الله عنهم بخلافه من غير إنكار ، والرابع : يعتبر أدنى الحدود على الإطلاق ، فلا يزاد حر ولا عبد على تسع عشرة . والخامس حكاه البغوي : الاعتبار بحد الحر ، فيبلغ بالحر والعبد تسعا وثلاثين .

                                                                                                                                                                        فصل

                                                                                                                                                                        من الأصحاب من يخص لفظ التعزير بضرب الإمام أو نائبه للتأديب في غير حد ، ويسمي ضرب الزوج زوجته ، والمعلم الصبي ، والأب ولده تأديبا لا تعزيرا ، ومنهم من يطلق التعزير على النوعين وهو الأشهر ، فعلى هذا مستوفي التعزير الإمام والزوج والأب والمعلم والسيد ، أما الإمام فيتولى بالولاية العامة إقامة العقوبات حدا وتعزيرا ، والأب يؤدب الصغير تعليما وزجرا عن سيء الأخلاق ، وكذا يؤدب المعتوه بما يضبطه ، ويشبه أن تكون الأم في زمن الصبي في كفالته كذلك كما ذكرنا في تعليم أحكام الطهارة والصلاة والأمر بها والضرب عليها أن الأمهات كالآباء ، والمعلم يؤدب الصبي بإذن الولي ونيابة عنه ، والزوج يعزر زوجته في النشوز وما يتعلق به ، ولا يعزرها فيما يتعلق بحق الله تعالى ، والسيد يعزر في حق نفسه وكذا في حق الله تعالى على الأصح ، وإذا أفضى تعزير إلى هلاك ، وجب الضمان على عاقلة المعزر ، ويكون قتله شبه عمد ، فإن كان الإسراف في الضرب ظاهرا وضربه بما يقصد به القتل غالبا ، فهو عمد محض ، وحكى الإمام عن المحققين تفريعا على هذه القاعدة أن المعزر إذا علم أن التأديب لا يحصل إلا بالضرب المبرح ، لم يكن له الضرب المبرح ولا غيره ، أما المبرح ؛ فلأنه مهلك ، وليس له الإهلاك ، وأما غيره ؛ فلا فائدة فيه .

                                                                                                                                                                        [ ص: 176 ] فصل

                                                                                                                                                                        الجناية المتعلقة بحق الله تعالى خاصة ، يجتهد الإمام في تعزيرها بما يراه من ضرب أو حبس ، أو اقتصار على التوبيخ بالكلام ، وإن رأى المصلحة في العفو ، فله ذلك ، وإن تعلقت الجناية بحق آدمي فهل يجب التعزير إذا طلب ؟ وجهان ، أحدهما : يجب ، وهو مقتضى كلام صاحب " المهذب " كالقصاص ، والثاني : لا يجب ، كالتعزير لحق الله تعالى ، وهذا هو الذي أطلقه الشيخ أبو حامد وغيره ، ومقتضى كلام البغوي ترجيحه ، وقال الإمام : قدر التعزير وما به التعزير إلى رأي الإمام ، ولا تكاد تظهر جنايته عند الإمام إلا ويوبخه ، ويغلظ له القول ، فيؤول الخلاف إلى أنه هل يجوز الاقتصار على التوبيخ ؟ ولو عفا مستحق العقوبة عن القصاص أو الحد أو التعزير ، فهل للإمام التعزير ؟ فيه أوجه ، أحدها : لا ؛ لأنه أسقطها . والثاني : نعم ؛ لأن فيه حقا لله تعالى ويحتاج إلى زجره وزجر غيره عن مثل ذلك ، وأصحها : إن عفا عن الحد ، فلا تعزير ، وإن عفا عن تعزير ، عزر ؛ لأن الحد مقدر لا نظر للإمام فيه ، فإذا سقط ، لم يعدل إلى غيره ، والتعزير يتعلق أصله بنظره ، فلم يؤثر فيه إسقاط غيره . وبالله التوفيق .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية