الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( الشاهد السادس عشر في الاختلاف في الدين ) :

                          ترى في الآيتين ( 118 و 119 ) ( 1 ) بيان سنن الله - تعالى - في اختلاف الأمم في الدين كاختلافهم في التكوين والعقول والفهوم ، وحكمة جعلها في خاتمة السورة : أنها أهم ما فيها من العبر للمؤمنين بالقرآن ، وهو أكمل هداية وهبها الله للإنسان ، لتكون كافلة كافية له إلى آخر الزمان ، ذلك بأن ما قبلها كله من سنن الاجتماع المبينة لأسباب فساد الأفراد والأمم وقد أرشدهم القرآن لاتقائها ، فهو جامع لوصف أمراض البشر كلها ولوصف علاجها ، فمن آمن به وتدبره من الأفراد والجماعات الصغرى ( البيوت والفصائل والعشائر ) والكبرى ( الشعوب والقبائل ) عمل به ، ومن عمل به سلم من الفساد والهلاك ، والهلاك حتما ، وإنما ينحصر الخوف عليهم في ترك العمل به ، وهذا الترك إذا كان من بعض الأفراد فخطبه سهل ، لأنه إما أن يكون من جهله بالحكم خالفه ودواؤه التعليم ، وإما أن يكون من فساد تربيته ودواؤه النصيحة والإرشاد ، وكل منهما مفروض على إخوانه المسلمين ، فإن لم يقبل النصيحة بالقول فعلاجه من جماعة المؤمنين ومن حكومتهم معروف ، وكذا إذا كان الترك من الجماعات الكبيرة أو الصغيرة للجهل أو لأسباب مالية أو عداوة شخصية ، أو عصبية دنيوية ، علاج كل ذلك في القرآن ظاهر .

                          وإنما البلاء الأكبر والموت الأحمر والخطر الأسود المظلم فهو اختلاف الشيع والأحزاب في الدين ، والزيغ عن القرآن باتباع ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ، فهذا الذي أشير إليه في هاتين الآيتين بحرمان أهله من رحمة الله في قوله : ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك 118 و 119 والمراد بهذه الرحمة في الدنيا ما وعد به المؤمنين واختصهم به في آيات كثيرة ، منها ما هو في رحمته المطلقة كقوله : إنه بهم رءوف رحيم 9 : 117 ، وكان بالمؤمنين رحيما 33 : 43 ومنها ما هو خاص برحمته بكتابه الأخير الذي أكمل به دينه وأتم على المؤمنين نعمته ، كقوله فيه : وهدى ورحمة للمؤمنين 10 : 57 ومنها ما هو خاص برحمته برسوله خاتم النبيين ، وهو وصفه - تعالى - إياه بما وصف به نفسه في قوله : بالمؤمنين رءوف رحيم 9 : 128 فهذه الرحمة الخاصة بالمؤمنين بالله الأول الآخر ، وبكتابه الأخير وبنبيه الخاتم - صلى الله عليه وسلم - لا تتم لأفرادهم إلا بتمام الاهتداء والاتباع لما كلفوه [ ص: 206 ] بقدر الاستطاعة الشخصية ، ولا تكون لجماعتهم - وهي الأمة - إلا باعتصامها بحبل الله وعروة الوحدة الوثقى ، باجتناب السواد الأعظم منها لما نهوا عنه من التفرق والتنازع في الأصول القطعية من النصوص والسنة العملية ، ورد الاختلاف والتنازع في غير القطعي إلى كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ثم إلى ترجيح أولي الأمر في المصالح العامة من السياسة والقضاء ، وترجيح الأفراد في المسائل الاجتهادية الخاصة ، وقد فصلنا هذا في مواضعه ، فالحق فيه ظاهر ، ولكن تنفيذه يتوقف على وجود الجماعة التي أمرنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - باتباعها وعدم مفارقتها قيد شعرة ، وهي جماعة ( أولي الأمر ) وأهل الحل والعقد ، وهم الذين يثق بهم السواد الأعظم من الأمة ، وينوط بهم الشرع نصب الأئمة ( الخلفاء ) والسلاطين عليها وعزلهم ، وقد فقدوا من أمتنا باستبداد الظالمين من ملوك العصبيات المختلفة بعد أن قضى عليها الإسلام ، وتبرأ الرسول - صلى الله عليه وسلم - ممن دعا إلى عصبية وممن قاتل على عصبية . فالواجب على المصلحين وضع نظام لإعادة حكم الإسلام وقد بسطناه في كتاب ( الخلافة أو الإمامة العظمى ) .

                          وأختم هذه الخلاصة بحديث : ( ( شيبتني هود وأخواتها ) ) رواه الطبراني في الكبير عن عقبة بن عامر وأبي جحيفة مرفوعا وأشار في الجامع الصغير إلى صحته . وروي عن بضعة نفر من الصحابة بزيادة ( ( قبل المشيب ) ) وبزيادة ( ( وأخواتها ) ) من المفصل في بعضها ، وبتسمية الواقعة والحاقة والمرسلات والنبأ ( ( عم يتساءلون ) ) وغيرها من سور قيام الساعة في بعض . وأسانيدها حسنة فليتدبرها المؤمنون .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية