الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              2118 [ 1082 ] وعنها ، قالت : منا من أهل بالحج مفردا ، ومنا من قرن ، ومنا من تمتع .

                                                                                              رواه البخاري (1562)، ومسلم (1211) (124)، وأبو داود (1779) .

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              (14) ومن باب: أنواع الإحرام

                                                                                              قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( من أراد أن يهل بحج وعمرة فليفعل ، ومن أراد أن يهل بحج فليهل ، ومن أراد أن يهل بعمرة فليهل ) ; هذا يقضي : بأن أنواع الإحرام ثلاثة ، وأن المكلف مخير في أيها أحب ; وإنما خلاف العلماء في الأفضل من تلك الأنواع :

                                                                                              فذهب مالك وأبو ثور : إلى أن إفراد الحج أفضل ، وهو أحد قولي الشافعي .

                                                                                              وقال أبو حنيفة ، والثوري : القران أفضل .

                                                                                              [ ص: 309 ] وقال أحمد ، وإسحاق ، والشافعي - في القول الآخر - ، وأهل الظاهر : إن التمتع أفضل .

                                                                                              وسبب اختلافهم : اختلاف الروايات في إحرام النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فروت عائشة ، وجابر بن عبد الله ، وأبو موسى ، وابن عمر رضي الله عنهم : أنه - صلى الله عليه وسلم - أحرم بالحج . وروى أنس ، وعمران بن حصين ، والبراء بن عازب ، وعمر بن الخطاب رضي الله عنهم : أنه قرن الحج والعمرة . وروى ابن عمر : أنه تمتع .

                                                                                              فلما تعارضت هذه الروايات الصحيحة ; صار كل فريق إلى ما هو الأرجح عنده ، فما اعتضد به لمالك : أن عائشة أعلم بدخلة أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غيرها ; لملازمتها له ، ولبحثها وجدها في طلب ذلك . وكذلك جابر : هو أحفظ الناس لحديث حجته - صلى الله عليه وسلم - ، ولأن الإفراد سلم عما يجبر بالدم ; فخلاف التمتع والقران ; إذ كل واحد منهما يجبر ما يقع فيهما من النقص بالدم . ومما اعتضد به لمن قال : إن القران أفضل : أن أنسا خادم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنده من تحقيق ذلك ما ليس عند غيره ; إذ قد نقل لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك ، فقال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : (لبيك عمرة وحجا) . وفي حديث البراء الذي خرجه النسائي : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعلي [ ص: 310 ] رضي الله عنه - حين سأله عن إحرامه ، فقال له : (كيف صنعت ؟) فقال : أهللت بإهلالك ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : (إني سقت الهدي وقرنت) ; وهذا نص رافع للإشكال . وفي البخاري عن عمر بن الخطاب قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بوادي العقيق يقول : (أتاني الليلة آت من ربي فقال : صل في هذا الوادي المبارك وقل : عمرة في حجة) .

                                                                                              وأما رواية ابن عمر في التمتع فلا يعول عليها لوجهين :

                                                                                              أحدهما : أنه قد اضطرب قوله : فروى بكر بن عبد الله عنه : أنه قال : لبى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحج وحده .

                                                                                              وثانيهما : أن الرواية التي قال فيها ابن عمر : تمتع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالعمرة إلى الحج ، قال في أثنائها ما يدل على أنه سمى الإرداف تمتعا . وسيأتي تحقيق ذلك . والذي يظهر لي : أن روايات القران أرجح ; لأن رواتها نقلوا ألفاظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإخباره عن نفسه وعن نيته ، وغيرهم ليس كذلك ، ولأن رواية القران يتأتى الجمع بينها وبين رواية الإفراد : بأن يقال : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مردفا ، فيمكن أن يقال : إن من روى : أنه أفرد ; إنما سمع إحرامه بالحج ، ولم يسمع إردافه بالعمرة . ومن روى : أنه قرن ، حقق الأمرين فنقلهما ، والله أعلم .

                                                                                              وقد استهول بعض القاصرين هذا الخلاف الواقع في إحرامه - صلى الله عليه وسلم - ، وقدره [ ص: 311 ] مطعنا على الشريعة زاعما : أن العادة قاضية بتواتره ، فلا يختلف فيه ، ولم يوجد ذلك إلا بالآحاد ، فيقطع بكذبها . وهذا لا يلتفت إليه . وإن ما تقتضي العادة تواتره تواتر وعلم ، وهو : أنه - صلى الله عليه وسلم - حج وأحرم من ذي الحليفة ، وأنه تمادى في إحرامه إلى أن أكمل مناسك حجه ، وحل من إحرامه عند طواف الإفاضة . وهذا كله معلوم بالنقل المتواتر الذي اشترك الجفلى فيه ; لأنه هو المحسوس لهم . وأما إحرامه فليس من الأمور التي يجب تواترها ; لأنه راجع إلى نيته ، ولا يطلع عليها إلا بالإخبار عنها ، أو بالنظر في الأحوال التي تدل عليها .

                                                                                              ولما كان ذلك ; فمنهم من نقل لفظه ; لأنه سمعه منه في وقت ما ، ومنهم من حدس وسبر ; فأخبر عما وقع له ، وحصل في ظنه . ولذلك قلنا : إن رواية من روى القران أولى ، والله أعلم .




                                                                                              الخدمات العلمية