الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          ومن طريق عبد الرزاق عن ابن جريج ، قلت لعطاء : رجل قال لامرأته : أمرك بيدك بعد يوم أو يومين ، قال : ليس هذا بشيء قلت : فأرسل إليها رجلا أن أمرها بيدها يوما أو ساعة ؟ قال : ما أدري ما هذا ، ما أظن هذا شيئا ؟ قلت لعطاء : أملكت عائشة حفصة حين ملكها المنذر بن الزبير أمرها ؟ فقال عطاء : لا ، إنما عرضت عليهم أيطلقها أم لا ؟ ولم يملكها أمرها .

                                                                                                                                                                                          وأما التمليك - فقد صح عن ابن عمر أنه قال : القضاء ما قضت ، وله أن يناكرها فإن ناكرها حلف ، وله ما نوى .

                                                                                                                                                                                          وروي عنه قول آخر - يصح عنه : القضاء ما قضت ، ولا قول له - وهو قول عطاء ، وعمر بن عبد العزيز ، والزهري .

                                                                                                                                                                                          وروي عنه - قول ثالث : أن التمليك نفسه طلاق - : رويناه من طريق عبد الرزاق عن معمر عن قتادة : أن ابن عمر قال : من ملك امرأته طلقت ، وعصى ربه - وهو قول الحسن .

                                                                                                                                                                                          وقول رابع - صح عن زيد بن ثابت : إن ملكها نفسها فطلقت نفسها ثلاثا ، فهي واحدة رجعية .

                                                                                                                                                                                          وقد ذكرنا قول سفيان ، والشافعي ، وأبي حنيفة في التمليك .

                                                                                                                                                                                          ولمالك في التمليك أقوال لم نذكرها ، نذكرها - إن شاء الله تعالى - وهي أنه قال : من ملك امرأته أمرها فسواء كانت بالغا ، أو غير بالغ ، إذا كان مثلها يفهم ما يجعل إليها - فهي طالق ثلاثا ، وله أن يناكرها ، فإن ردت أمرها إليه فلا حكم لها ، فإن طلقت نفسها أكثر من واحدة ؟ فقال : لم أملك إلا واحدة أو يقول : لم أرد الطلاق ، فهذه هي المناكرة ، ويحلف هو ، فتكون طلقة واحدة بائنة .

                                                                                                                                                                                          قال : فلو قال : لم أنو عددا من الطلاق ، فهي طالق ثلاثا .

                                                                                                                                                                                          [ ص: 296 ] قال : فلو قال لامرأته : قد ملكتك أمرك ، فليس له أن يرجع عن ذلك ، وليس له أن يوقفها هو لتقضي ، أو لتترك ، إنما القضاء إليها حتى يوقفها السلطان فتقضي أو تترك ، فيبطل ما جعل إليها إن تركت .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : لم يوافق في هذا إلا قولا من أقوال ثلاثة لابن عمر في المناكرة خاصة .

                                                                                                                                                                                          وسائر أقواله في ذلك لا سلف له فيها ، وقد خالفه زيد صح ذلك عنه .

                                                                                                                                                                                          وليس في التمليك إيجاب طلاق عن أحد من الصحابة - رضي الله عنهم - إلا عن ابن عمر ، وزيد فقط ، وذكره بعض الناس عن فضالة بن عبيد ; والذي نقول به هو - : ما رويناه من طريق أبي عبيد نا عبد الغفار بن داود عن ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب أن رميثة الفراسية كانت تحت محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق فملكها أمرها ، فقالت : أنت طالق ثلاث مرات ؟ فقال عثمان بن عفان : أخطأت ، لا طلاق لها ، ألا إن المرأة لا تطلق .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق عبد الرزاق نا ابن جريج أخبرني أبو الزبير : أن مجاهدا أخبره " أن رجلا جاء إلى ابن عباس فقال : ملكت امرأتي فطلقتني ثلاثا ؟ فقال ابن عباس : خطأ الله نوأها عليك ، إنما الطلاق لك عليها ، وليس لها عليك " وهذا في غاية الصحة عن ابن عباس .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق عبد الرزاق عن ابن جريج سألت عبد الله بن طاوس : كيف كان أبوك يقول في رجل ملك امرأته أمرها ، أتملك أن تطلق نفسها أم لا ؟ قال : كان يقول : ليس إلى النساء طلاق ؟ فقلت له : فكيف كان أبوه يقول في رجل ملك رجلا أمر امرأته ، أيملك الرجل أن يطلقها ؟ قال : لا - وهو قول أبي سليمان وجميع أصحابنا .

                                                                                                                                                                                          وأما التخيير - فصح أن عمر بن الخطاب قال : إن اختارت نفسها فواحدة رجعية ، وإن اختارت زوجها فهي امرأته كما كانت .

                                                                                                                                                                                          وروينا من طريق عبد الرحمن بن مهدي عن جرير بن حازم عن عيسى بن عاصم عن زاذان : أن علي بن أبي طالب خالف عمر في ذلك ، ثم رجع إلى قول عمر ، إذ ولي الخلافة .

                                                                                                                                                                                          [ ص: 297 ] وروينا هذا القول عن ابن عباس ، ولم يصح عنه .

                                                                                                                                                                                          وصح عن عطاء ، وعمر بن عبد العزيز ، وإبراهيم .

                                                                                                                                                                                          وصح عن جابر بن عبد الله : إن اختارت نفسها فواحدة رجعية .

                                                                                                                                                                                          وقول آخر - وهو : إن اختارت نفسها فواحدة بائنة ، وإن اختارت زوجها فواحدة رجعية ، فإن كرر ذلك ثلاث مرات كل ذلك تختاره : طلقت ثلاثا ، فإن وطئها قبل زوج يتزوجها فعليه الرجم - : روينا - أن عليا رجع عن موافقة عمر إلى هذا القول ، إذ ولي الخلافة : من طريقة وكيع بن الجراح ، والحجاج بن المنهال ، كلاهما عن جرير بن حازم عن عيسى بن عاصم عن زاذان عن علي .

                                                                                                                                                                                          وصح هذا القول عن قتادة - وصح عن علي أيضا : أنها إن اختارت نفسها لم يجز له ولا لغيره أن يخطبها في العدة من تلك الطلقة - : روينا هذه الزيادة من طريق حماد بن سلمة عن قتادة عن خلاس بن عمرو : أن علي بن أبي طالب قال : إن اختارت نفسها فهي واحدة ، ولا يخطبها هو ، ولا من سواه ، إلا بعد انقضاء العدة ، وإن اختارت زوجها فهي واحدة ، وهو أحق بها .

                                                                                                                                                                                          وقول ثالث - صح عن زيد بن ثابت وهو إن اختارت نفسها فثلاث وإن اختارت زوجها فواحدة رجعية - وبه يقول مسروق .

                                                                                                                                                                                          كما روينا من طريق سعيد بن منصور نا هشيم نا داود بن أبي هند عن الشعبي عن مسروق أنه كان يقول من قول زيد : إن اختارت نفسها فثلاث ، وإن اختارت زوجها فواحدة .

                                                                                                                                                                                          وقول رابع - وهو أنه إذا خيرها فطلقت نفسها ثلاثا فهي واحدة - : رويناه هكذا أيضا : من طريق سفيان بن عيينة عن أبي الزناد عن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق عن زيد بن ثابت قال : إذا خير الرجل امرأته فطلقت نفسها ثلاثا فهي واحدة .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق عبد الرزاق معمر عن يحيى بن أبي كثير قال : خير محمد بن أبي عتيق امرأته فطلقت نفسها ثلاثا ، فسأل زيد بن ثابت ؟ فجعلها زيد واحدة ، وهو أملك برجعتها - قال : فذكرت ذلك لأيوب ؟ فقال : بلغني نحو هذا عن زيد .

                                                                                                                                                                                          [ ص: 298 ] وقول خامس - رويناه عن ابن مسعود من طريق لا تصح ، لأن فيها جابرا الجعفي - وهو كذاب - إن خيرها مرة ، ثم مرة ، ثم مرة - وهي ساكتة ، فقالت في المرة الثالثة : قد اخترت نفسي ، فهي طالق ثلاثا .

                                                                                                                                                                                          وروينا عن إبراهيم النخعي ، والشعبي : أنهما قالا : إن كرر تخييرها ثلاث مرات فاختارت واحدة ، فهي طالق ثلاثا ، وإن خيرها مرة واحدة فاختارت ثلاث تطليقات ، فهي طلقة واحدة .

                                                                                                                                                                                          وقول سادس - رويناه عن جابر بن زيد في التي يخيرها زوجها : القضاء ما قضت - وصح عن ابن مسعود ، وجابر بن عبد الله ، والنخعي ، والشعبي ، وجابر بن زيد ، ومكحول ، وعطاء : إن قامت من مجلسها قبل أن تقضي فلا قضاء لها .

                                                                                                                                                                                          وروينا عن عمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب ، وزيد بن ثابت ، وأيوب السختياني ، والزهري : أن التخيير ، والتمليك سواء .

                                                                                                                                                                                          وقول سابع - وبه نقول - : رويناه من طريق سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس : أنه سئل عن رجل جعل أمر امرأته بيدها ؟ فقالت : أنت طالق ، أنت طالق ، أنت طالق ؟ فقال ابن عباس : خطأ الله نوأها لا أدري ما الخيار .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : هذا أصح ما روي في ذلك عن ابن عباس ، وأما الزيادة التي رواها قوم في هذا الخبر من أن ابن عباس قال : لو قالت : أنا طالق ثلاثا ، لكان كما قالت ، أو إلا طلقت نفسها ثلاثا ، فلا يصح ، لأنه إنما رواها الحكم بن عتيبة ، وحبيب بن أبي ثابت ومنصور - وكلهم لم يلق ابن عباس .

                                                                                                                                                                                          وروينا هذا أيضا : من طريق عمرو بن دينار عن ابن عباس : إلا " قالت : أنا طالق ، أنا طالق " وهذا خبر لم يسمعه عمرو من ابن عباس ، لأنه إنما رواه عن عكرمة ، بخلاف هذا عن ابن عباس - وبهذا يقول أبو سليمان ، وأصحابنا : قال أبو محمد : وقد ذكرنا قول سفيان ، والشافعي في التخيير آنفا .

                                                                                                                                                                                          وأما أبو حنيفة - فقال : إن قال لها : اختاري فخيرها ، ثم قال : لم أرد طلاقا ، فإن [ ص: 299 ] كان ذلك في رضا لم يجر فيه ذكر طلاق كان القول قوله مع يمينه ، ولا خيار لها - فإن كان في غضب فيه ذكر طلاق أو ليس فيه ذكر طلاق ، أو كان في رضا ذكر فيه طلاق لم يلتفت إلى دعوى الزوج ، وكان لها الخيار ، فإن اختارت زوجها فهي امرأته ، وبطل خيارها ، وإن اختارت نفسها فهي طالق واحدة بائنة ، لا تكون رجعية أصلا ، ولا أكثر من واحدة ، سواء نوى هو أكثر من واحدة أو لم ينو ، اختارت هي أكثر من واحدة ، أو اختارت واحدة رجعية .

                                                                                                                                                                                          ثم لهم من التخاليط في حركاتها وأعمالها أشياء يطول ذكرها ، إلا أنها من عجائب الدنيا ، قد ذكرناها في " كتاب الإيصال " .

                                                                                                                                                                                          وقال مالك : إن خيرها فاختارته ، فهي امرأته وقد بطل خيارها ، فإن اختارت نفسها فهي طالق ثلاثا ولا بد ، سواء قالت : أردت الطلاق ، أو قالت : لم أرد الطلاق ، وليس له أن يناكرها ، ولا يلتفت إلى نيته أصلا ، فلو طلقت نفسها واحدة أو اثنتين فليس بشيء ، ولا يلزمه ذلك وليس لها إلا اختيار زوجها ، أو أن تطلق نفسها ثلاثا ولا بد ، إلا أن يخيرها وقد عزم على طلاقها ، أو مخالعتها ؟ فهاهنا إن اختارت نفسها فهي طلقة واحدة بائنة - وكذلك لو قال لها : اختاري طلقة ؟ فليس لها إلا طلقة واحدة رجعية - هذا كله في المدخول بها .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية