الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( والعمل به ) أي بخبر الواحد ( جائز عقلا ) عند جماهير العلماء . وخالف فيه قوم منهم الجبائي ، وأكثر القدرية ، وبعض الظاهرية . ولنا أنه لا يلزم منه محال ، وليس احتمال الكذب والخطإ بمانع ، وإلا لمنع في الشاهد والمفتي ، ولا يلزم الوصول لما سبق في إفادته العلم وإلا نقل ، لقضاء العادة فيه بالتواتر ، ولا التعبد في الإخبار عن الله بلا معجزة ; لأن العادة تحيل صدقه بدونها ، ولا التناقض بالتعارض ; لأنه يندفع بالترجيح أو التخيير أو الوقف ; ولأن العمل بخبر الواحد دفع ضرر مظنون فوجب أخذا بالاحتياط ، وقواطع الشرع نادرة فاعتبارها يعطل أكثر الأحكام ، والرسول صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى الكافة . ومشافهتهم وإبلاغهم بالتواتر متعذر ، فتعينت الآحاد . والمعتمد في ذلك : أن نصب الشارع علما ظنيا على وجوب فعل تكليفي جائز بالضرورة ، ثم إن المنكر لذلك إن أقر بالشرع وعرف قواعده ومبانيه وافق والله أعلم . والعمل بخبر الواحد من جهة الشرع ( واجب سمعا ) في الأمور الدينية عندنا وعند أكثر العلماء . قال القاضي أبو يعلى : يجب عندنا [ ص: 268 ] سمعا . وقاله عامة الفقهاء والمتكلمين ، وهو الصحيح المعتمد عند جماهير العلماء من السلف والخلف ، قال ابن القاص : لا خلاف بين أهل الفقه في قبول خبر الآحاد . فأصحاب هذا القول اتفقوا على أن الدليل السمعي : دل عليه ، من الكتاب والسنة وعمل الصحابة ورجوعهم ، كما ثبت ذلك بالتواتر ، لكن الجبائي اعتبر لقبوله شرعا أن يرويه اثنان في جميع طبقاته ، أو يعضد بدليل آخر .

كظهوره وانتشاره في الصحابة ، أو عمل بعضهم به . كحديث أبي بكر في توريث الجدة لأنه رد خبر المغيرة فيه : حتى شهد معه محمد بن مسلمة ، وكذلك عمر رد قول أبي موسى في الاستئذان ، حتى وافقه أبو سعيد الخدري . والجواب : أنهما فعلا ذلك تثبتا في قضية خاصة . ولذلك حكما في وقائع كثيرة بأخبار الآحاد . واختار عبد الجبار المعتزلي ، وحكي عن الجبائي : أنه لا يحد بخبر دال على حد الزنا إلا أن يرويه أربعة ، قياسا على الشهادة به . والجواب : أن هذا قياس مع الفارق ، إذ باب الشهادة أحوط . ولذلك أجمعوا على اشتراط العدد فيه . ومنع قوم من قبول أخبار الآحاد مطلقا ، منهم ابن أبي داود وبعض المعتزلة وبعض القدرية والظاهرية .

وكذلك الرافضة ، وناقضوا فأثبتوا تصدق علي بخاتمه في الصلاة ونكاح المتعة والنقض بأكل لحم الإبل . وكلها إنما ثبتت بالآحاد . قال ابن القاص : وإنما دفع بعض أهل الكلام خبر الآحاد لعجزه عن السنن رغم أنه لا يقبل منها إلا ما تواتر بخبر من يجوز عليه الغلط والنسيان . وهذا ذريعة إلى إبطال السنن .

فإن ما شرطه لا يكاد يوجد إليه سبيل انتهى . ومنعه المالكية إذا خالفه عمل أهل المدينة . ومنعه أكثر الحنفية فيما تعم به البلوى ، أو خالفه راويه ، أو عارض القياس ; لأن ما تعم به البلوى - كحديث مس الذكر - تقتضي العادة تواتره ، ولأن ما خالفه راويه يدل على أنه إنما خالفه لدليل أقوى .

ولذلك لم يوجبوا التسبيع في ولوغ الكلب لمخالفة أبي هريرة لروايته ، ولأن مخالفة القياس تدل على رجحان كذبه . ولهذا ردوا خبر المصراة لمخالفته لقياس ضمان [ ص: 269 ] المتلفات . واستدل للجمهور على قبوله بأنه قد كثر جدا قبوله والعمل به في الصحابة والتابعين عملا شائعا من غير نكير يحصل به إجماعهم عليه عادة قطعا . فمنه { قول أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه ، لما جاءته الجدة تطلب ميراثها ما لك في كتاب الله شيء . وما علمت لك في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا . فارجعي حتى أسأل الناس . فسأل الناس ، فقال المغيرة : حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس . فقال : هل معك غيرك ؟ فقال محمد بن مسلمة مثله . فأنفذه لها أبو بكر } رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والترمذي . وقال : حسن صحيح . { واستشار عمر الناس في الجنين . فقال المغيرة قضى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بغرة عبد أو أمة . فقال : لتأتين بمن يشهد معك . فشهد له محمد بن مسلمة } متفق عليه .

ولأبي داود من حديث طاوس عن عمر رضي الله عنه " لو لم نسمع هذا لقضينا بغيره " ورواه الشافعي وسعيد من حديث طاوس أنه سأل عن ذلك . فقال حمل بن مالك { إن النبي صلى الله عليه وسلم قضى فيه بغرة } وقول عمر ذلك وطاوس لم يدركه .

وأخذ عمر بقول عبد الرحمن بن عوف في أخذ الجزية من المجوس . رواه البخاري { وكان عمر رضي الله عنه لا يورث المرأة من دية زوجها حتى أخبره الضحاك أن رسول الله كتب إليه أن يورث امرأة أشيم من دية زوجها } رواه مالك وأحمد وأبو داود والترمذي وصححه . وروى هؤلاء " أن عثمان أخذ . بخبر فريعة بنت مالك أخت أبي سعيد : أن عدة الوفاة في منزل الزوج " وفي البخاري عن ابن عمر أن سعدا حدثه { أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين } . فسأل ابن عمر أباه عنه . فقال : نعم . إذا حدثك سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا تسأل عنه غيره

" ورجع ابن عباس إلى خبر أبي سعيد في تحريم ربا الفضل . رواه الأثرم وغيره . وروى سعيد من طرق عدم رجوعه

، وتحول أهل قباء إلى القبلة وهم في الصلاة بخبر الواحد . رواه أحمد ومسلم وأبو داود من حديث أبي هريرة . ومعناه في الصحيحين من حديث ابن عمر .

{ وقال ابن عمر ما كنا نرى بالمزارعة [ ص: 270 ] بأسا ، حتى سمعت رافع بن خديج يقول : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها فتركتها من أجله } وللشافعي ومسلم { عن ابن عمر كنا نخابر فلا نرى بذلك بأسا فزعم رافع : أن نبي الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه ، فتركناه من أجله }

{ وكان زيد بن ثابت يرى أن لا تصدر الحائض حتى تطوف بالبيت . فقال له ابن عباس سل فلانة الأنصارية ، هل أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك ؟ فأخبرته . فرجع زيد ، وهو يضحك . فقال لابن عباس : ما أراك إلا صدقت } رواه مسلم وغير ذلك مما يطول . لا يقال : إنها أخبار آحاد فيلزم الدور ; لأنا نقول : بل هي متواترة كما سبق في أخبار الإجماع . وأيضا : تواتر { أنه عليه أفضل الصلاة والسلام كان يبعث الآحاد إلى النواحي لتبليغ الأحكام ، مع العلم بتكليف المبعوث إليهم العمل بذلك } . لا يقال : هذا من الفتيا للعامي ; لأن الاعتماد على كتبه مع الآحاد إلى الأطراف ، وما يأمر به من قبض زكاة وغير ذلك ، وعمل الصحابة ومن بعدهم وتأسوا به ، وذلك مقطوع به . إذا تقرر هذا ، فهل يعمل به مطلقا ، أو حيث لا طريق إلى العلم غيره ؟ في ذلك وجهان للأصحاب . قال الشيخ تقي الدين في المسودة قال أبو الخطاب : الحكم بخبر الواحد عن الرسول صلى الله عليه وسلم لمن يمكنه سؤاله ، مثل الحكم باجتهاده واختياره . يعني : أنه لا يجوز . والذي ذكره بقية أصحابنا القاضي وابن عقيل : جواز العمل بخبر الواحد لمن يمكنه سؤاله ، أو أمكنه الرجوع إلى التواتر ، محتجين به في المسألة بمقتضى أنه إجماع . وهذا مثل قول بعض أصحابنا : إنه لا يعمل بقول المؤذن مع إمكان العلم بالوقت . وهذا القول خلاف مذهب أحمد وسائر العلماء المعتبرين . وخلاف ما شهدت به النصوص . وذكر في مسألة منع التقليد : أن المتمكن من العلم لا يجوز له العدول إلى الظن ، وجعله محل وفاق واحتج به في المسألة ا هـ .

التالي السابق


الخدمات العلمية