الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 61 ] ( وأما الضرب الثاني وهو الكنايات لا يقع بها الطلاق إلا بالنية أو بدلالة الحال ) لأنها غير موضوعة للطلاق بل تحتمله وغيره فلا بد من التعيين أو دلالته . قال ( وهي على ضربين : منها ثلاثة ألفاظ يقع بها الطلاق الرجعي ولا يقع بها إلا واحدة ، وهي قوله : اعتدي واستبرئي رحمك وأنت واحدة ) أما الأولى فلأنها تحتمل الاعتداد عن النكاح وتحتمل اعتداد نعم الله تعالى ، فإن نوى الأول تعين بنيته فيقتضي طلاقا سابقا والطلاق يعقب الرجعة . [ ص: 62 ]

وأما الثانية فلأنها تستعمل بمعنى الاعتداد لأنه تصريح بما هو المقصود منه فكان بمنزلته وتحتمل الاستبراء ليطلقها ، وأما الثالثة فلأنها تحتمل أن تكون نعتا لمصدر محذوف معناه تطليقة واحدة ، فإذا نواه جعل كأنه قاله ، والطلاق يعقب الرجعة ، ويحتمل غيره وهو أن تكون واحدة عنده أو عند قومه ، ولما احتملت هذه الألفاظ الطلاق وغيره تحتاج فيه إلى النية ولا تقع إلا واحدة لأن قوله : أنت طالق فيها مقتضى أو مضمر ، ولو كان مظهرا لا تقع بها إلا واحدة ، فإذا كان مضمرا أولى ، وفي قوله واحدة وإن صار المصدر مذكورا لكن التنصيص على الواحدة ينافي نية [ ص: 63 ] الثلاث ، ولا معتبر بإعراب الواحدة عند عامة المشايخ هو الصحيح لأن العوام لا يميزون بين وجوه الإعراب .

قال ( وبقية الكنايات إذا نوى بها الطلاق كانت واحدة بائنة ، وإن نوى ثلاثا كانت ثلاثا ، وإن نوى ثنتين كانت واحدة ، [ ص: 64 ] وهذا مثل قوله : أنت بائن وبتة وبتلة وحرام وحبلك على غاربك والحقي بأهلك وخلية وبرية ووهبتك لأهلك وسرحتك وفارقتك وأمرك بيدك واختاري وأنت حرة وتقنعي وتخمري واستتري واغربي واخرجي واذهبي وقومي وابتغي الأزواج ) لأنها تحتمل الطلاق وغيره فلا بد من النية .

قال ( إلا أن يكون في حال مذاكرة الطلاق ) فيقع بها الطلاق في القضاء ، ولا يقع فيما بينه وبين الله تعالى إلا أن ينويه . قال رضي الله عنه ( سوى بين هذه الألفاظ وقال : ولا يصدق في القضاء إذا كان في حال مذاكرة الطلاق ) [ ص: 65 ] قالوا ( وهذا فيما لا يصلح ردا ) والجملة في ذلك أن الأحوال ثلاثة : حالة مطلقة وهي حالة الرضا ، وحالة مذاكرة الطلاق ، وحالة الغضب .

والكنايات ثلاثة أقسام : ما يصلح جوابا وردا ، وما يصلح جوابا لا ردا ، وما يصلح جوابا وسبا وشتيمة . ففي حالة الرضا لا يكون شيء منها طلاقا إلا بالنية ، فالقول قوله في إنكار النية لما قلنا ، وفي حالة مذاكرة الطلاق لا يصدق فيما يصلح جوابا ، ولا يصلح ردا في القضاء مثل قوله خلية برية بائن بتة حرام اعتدي أمرك بيدك اختاري ; لأن الظاهر أن مراده الطلاق عند سؤال الطلاق ، ويصدق فيما يصلح جوابا وردا مثل قوله : اذهبي اخرجي قومي تقنعي تخمري [ ص: 66 ] وما يجري هذا المجرى لأنه يحتمل الرد وهو الأدنى فحمل عليه .

وفي حالة الغضب يصدق في جميع ذلك لاحتمال الرد والسب ، إلا فيما يصلح للطلاق ولا يصلح للرد والشتم كقوله : اعتدي واختاري وأمرك بيدك فإنه لا يصدق فيها لأن الغضب يدل على إرادة الطلاق . وعن أبي يوسف في قوله : لا ملك لي عليك ولا سبيل لي عليك وخليت سبيلك وفارقتك ، أنه يصدق في حالة الغضب لما فيها من احتمال معنى السب .

التالي السابق


( قوله : وأما الضرب الثاني وهو الكنايات ) لما ذكر أحكام الصريح شرع في بيان الكنايات وقدم الصريح إذ هو الأصل في الكلام لأنه وضع للإفهام ، فما كان أدخل وأظهر فيه كان أصلا بالنسبة لما وضع له ، وحين كان الصريح ما ظهر المراد منه لاشتهاره في المعنى كان الكناية ما خفي المراد به لتوارد الاحتمالات عليه ، وإنما لم يعرف المصنف الكناية كما عرف الصريح بل ابتدأ فقال ( وهو الكنايات لا يقع بها الطلاق إلا بالنية ) إلى آخره لاشتهار أنها ضد الصريح ، وحين عرفه علم أن الكناية ما لم يصدق عليه تعريفه مع أنه يؤخذ رسمها من تعليله حيث قال : إنها تحتمله وغيره ، فكأن الكناية ما احتمل الطلاق وغيره فلزم أن يستفسر عن مقصوده به ، أما إذا كانت حالة ظاهرة تفيد مقصوده فإن القاضي يعتبرها ولا يصدقه في ادعاء فإنه ينصرف إلى ما يخالف مقتضاها وهي دلالة الحال فإنها مما يحكم بإرادة مقتضاها شرعا كما في البيع بالدراهم المطلقة فإنه ينصرف إلى غالب نقد البلد بدلالة الحال ، وكذا إذا أطلق الضرورة نية الحج ينصرف إلى نية الحج الفرض .

والحاصل أن النية باطنة والحال ظاهرة في المراد فظهرت نيته بها فلا يصدق في إنكار مقتضاها بعد ظهوره في القضاء ، وأما فيما بينه وبين الله تعالى فيصدقه الله سبحانه إذا نوى خلاف مقتضى ظاهر الحال . فقول المصنف لا يقع بها الطلاق إلا بالنية أو بدلالة الحال يحمل على حكم القاضي بالوقوع ، أما في نفس الأمر فلا يقع إلا بالنية مطلقا ، ألا ترى أن أنت طالق إذا قال : أردت عن وثاق لا يصدقه وفيما بينه وبين الله هي زوجته إذا كان نواه ( قوله : لأنها غير موضوعة للطلاق ) بل موضوعة لما هو أعم منه أو من حكمه ، والأعم في المادة الاستعمالية يحتمل كلا مما صدقاته ، ولا يتعين أحدهما إلا بمعين ، والمعين في نفس الأمر هو النية ، وبالنسبة إلى القاضي دلالة الحال ، فإن لم تكن فدعواه ما أراد ، وإنما قلنا : أعم منه ومن حكمه ، ولم نقل : أعم منه لما سنذكر من أنها لم يرد بما سوى الثلاث الرجعية اعتدي استبرئي أنت واحدة الطلاق أصلا بل ما هو حكمه من البينونة من النكاح ، وعلى هذا فقول المصنف بل تحتمله وغيره تساهل لأن محتملات اللفظ تستعمل فيها ، وسنشير إلى أنه لم يرد بها الطلاق ونقرره .

والجواب أن المراد تحتمله متعلقا لمعناها أو واقعا عنده فتدخل الثلاث الرجعية ( قوله وهي ) أي الكنايات ( على ضربين ) هذا تقسيم للكنايات ، وهي تنقسم أولا بحسب ما هي كناية عنه ، وثانيا باعتبار الواقع بها ، وما ذكره المصنف هي القسمة الثانية .

أما الأولى فتنقسم إلى ما هو كناية عن حكم الطلاق وإلى ما عن تفويضه الثاني لفظان اختاري وأمرك بيدك [ ص: 62 ] لا يدخل في يدها إلا بنية الطلاق فلا يقع إلا بقولها بعد نيته طلقت نفسي واخترت نفسي ، والأول ما سواهما وينقسم إلى ما يقع به البائن وهو ما سوى الألفاظ الثلاثة وسنذكر ما فيه ، وإلى ما يقع به الرجعي وهي الألفاظ الثلاثة اعتدي واستبرئي رحمك وأنت واحدة ثم لا يقع به إلا واحدة .

أما الأولى : أي كون الأولى وهي كلمة اعتدي كناية فلأنها تحتمل الاعتداد عن النكاح والاعتداد بنعم الله تعالى ، فإن نوى الأول تعين ويقتضي طلاقا سابقا والطلاق يعقب الرجعة .

ولا يخفى أن القول بالاقتضاء وثبوت الرجعة فيما إذا قاله بعد الدخول ، أما قبله فهو مجاز عن كوني طالقا باسم الحكم عن العلة لا المسبب عن السبب ليرد أن شرطه اختصاص المسبب بالسبب ، والعدة لا تختص بالطلاق لثبوتها في أم الولد إذا عتقت . ويجاب بأن ثبوتها فيما ذكر لوجود سبب ثبوتها في الطلاق وهو الاستبراء لا بالأصالة وهو غير دافع سؤال عدم الاختصاص .

واعلم أنه كما يجب كونها مجازا عن كوني طالقا في غير المدخول بها يجب كون استبرئي رحمك كذلك في المدخول بها إذا كانت آيسة أو صغيرة ، وما في النوادر من أن وقوع الرجعي بها استحسان لحديث { سودة : يعني أنه صلى الله عليه وسلم قال لها : اعتدي ثم راجعها } والقياس أن يقع البائن كسائر الكنايات بعيد بل ثبوت الرجعي بها قياس واستحسان لأن عليه البينونة في غير الثلاثة منتفية فيها فلا يتجه القياس أصلا . نعم الاعتداد يقتضي فرقة بعد الدخول وهي أعم من رجعي وبائن لكن لا يوجب ذلك تعين البائن بل يتعين الأخف لعدم الدلالة على الزائد عليه .

وأما الثانية وهي كلمة استبرئي رحمك فلأنه تصريح بما هو المقصود من العدة وهو تعرف براءة الرحم فاحتمل استبرئيه لأني طلقتك أو لأطلقك : يعني إذا علمت خلوه عن الولد ، وعلى الأول يقع وعلى الثاني لا فلا بد من النية ، ولا يخفى أنها أيضا قبل الدخول مجاز عن كوني طالقا كاعتدي ، وكذا في الآيسة والصغيرة المدخول بها كما ذكرناه .

وأما الثالثة وهي أنت واحدة [ ص: 63 ] فلأنها تحتمل أن تكون نعتا لمصدر محذوف معناه تطليقة واحدة ، فإذا نواه فكأنه قاله : يعني إذا نواه مع الوصف المذكور فكأنه قاله لظهور أن مجرد نية الطلاق لا يوجب الحكم والطلاق يعقب الرجعة ، ويحتمل غيره نحو أنت واحدة عندي أو في قومك مدحا وذما ، فقد ظهر أن الطلاق في هذه الألفاظ الثلاثة مقتضى كما هو في اعتدي استبرئي رحمك لأنه يقع شرعا بها فهو ثابت اقتضاء ومضمر في واحدة ، ولو كان مظهرا لا يقع إلا واحدة ، فإذا كان مضمرا وأنه أضعف منه أولى أن لا يقع إلا واحدة ، وفي واحدة إن صار المصدر مذكورا بذكر صفته لكن التنصيص على الواحد يمنع إرادة الثلاث لأنها صفة للمصدر المحدود بالهاء فلا يتجاوز الواحدة .

واعتراض بعضهم على قوله يحتمل أن يكون نعتا لمصدر محذوف : أي تطليقة واحدة بأن فيه تكلفا غير محتاج إليه ، بل يحتمل أن يراد به منفردة عن الزوج ساقط لأنه لا يدفع احتماله لما ذكر المصنف ، والتطليق بالمصدر الملفوظ به شائع في طلاق العرب منه ما قدمناه من الشعر القائل :

فأنت طلاق والطلاق عزيمة

إلى آخره ، ومن قول المغيرة بن شعبة حين طلق الأربع : اذهبن فأنتن الطلاق أو طلاق وكثير ، بخلاف التطليق بلفظ أنت منفردة عن الزوج فكان احتمال أنت واحدة للمصدر أظهر من احتمالها لمنفردة عن الزوج فضلا عن تعين الثاني ( قوله ولا معتبر بإعراب الواحدة عند عامة المشايخ هو الصحيح ) احتراز عما قال بعضهم إن رفع الواحدة لا يقع شيء وإن نوى ، وإن نصبها وقعت واحدة وإن لم ينو لأنها حينئذ نعت للمصدر : أي أنت طالق تطليقة واحدة فقد أوقع بالصريح وإن سكن احتيج إلى النية .

وجه الصحيح أن العوام لا يميزون بين وجوه الإعراب فلا يجوز بناء حكم يرجع إلى العامة عليه ، ولأن الرفع يجوز لكونه نعتا لطلقة : أي أنت طلقة واحدة ، والنصب يجوز لكونه نعتا لمصدر آخر : أي أنت متكلمة كلمة واحدة ، وهذا الوجه يعم العوام والخواص ، ولأن الخاصة لا تلتزم التكلم العرفي على صحة الإعراب بل تلك صناعتهم والعرف لغتهم ، ولذا ترى أهل العلم في مجاري كلامهم لا يقيمونه ( قوله : وبقية الكنايات إذا نوى بها الطلاق كانت واحدة بائنة ، فإن نوى الثلاث كانت ثلاثا ، وإن نوى ثنتين كانت واحدة ) وفي هذا الإطلاق نظر ، بل يقع الرجعي ببعض الكنايات سوى الثلاث ، فقد ذكر في أنا بريء من طلاقك يقع رجعي إذا نوى ، بخلاف ما إذا قال من نكاحك ، قاله ابن سلام .

وفي الخلاصة اختلف في برئت من طلاقك إذا نوى ، والأصح يقع رجعيا ، والأوجه عندي أن يقع بائنا لأن حقيقة تبرئته منه تستلزم عجزه عن الإيقاع وهو بالبينونة بانقضاء العدة أو الثلاث أو عدم الإيقاع أصلا وبذلك صار كناية ، فإذا أراد الأول [ ص: 64 ] وقع وصرف إلى إحدى البينونتين وهي التي دون الثلاث ، وكذا في قوله : الطلاق عليك يقع بالنية وفي وهبتك طلاقك إذا نوى يقع رجعيا ، وكذا قالوا في بعتك طلاقك إذا قالت : اشتريت من غير بدل ، ثم في الهبة إذا لم تكن نية تطلق في القضاء .

ولو قال نويت أن يكون في يدها لا يصدق ، وأما فيما بينه وبين الله تعالى فهو كما نوى ، فإن طلقت نفسها في ذلك المجلس طلقت وإلا فهي زوجته . هذا إذا ابتدأ الزوج ، فلو ابتدأت فقالت : هب لي طلاقي تريد أعرض عنه فقال : وهبت لا يقع وإن نوى ; لأنه جوابها فيما طلبت كذا قيل ، وفيه نظر ، بل يجب أن يقع إذا نوى لأنه لو ابتدأ به ونوى وقع ، فإذا نوى الطلاق فقد قصد عدم الجواب ، وأخرج الكلام ابتداء وله ذلك وهو أدرى بنفسه ونيته ، ويقع رجعيا في خذي طلاقك وأقرضتك وكذا في قد شاء الله طلاقك أو قضاه أو شئت يقع بالنية رجعيا .

( قوله : وهذا مثل قوله أنت بائن وبتة وبتلة وحرام وحبلك على غاربك والحقي بأهلك ) بوصل الهمزة ( وخلية وبرية ووهبتك لأهلك وفارقتك وأمرك بيدك واختاري وأنت حرة ) وأعتقتك مثل أنت حرة ( تقنعي وتخمري واستتري واغربي ) بالغين المعجمة والراء المهملة وبالعين المهملة والزاي ( واخرجي واذهبي وقومي وابتغي الأزواج لأنها تحتمل الطلاق وغيره ) وتحرير المحتملات غير خاف ، وحبلك على غاربك تمثيل لأنه تشبيه بالصورة المنتزعة من أشياء وهي هيئة الناقة إذا أريد إطلاقها للرعي وهي ذات رسن فألقى الحبل على غاربها : وهو ما بين السنام والعنق كي لا تتعقل به إذا كان مطروحا ، فشبه بهذه الهيئة الإطلاقية إطلاق المرأة عن قيد النكاح أو العمل أو التصرف من البيع والشراء والإجارة والاستئجار وصار كناية في الطلاق لتعدد صور الإطلاق ، وفي وهبتك لأهلك إذا نوى يقع وإن لم يقبلوها لأنه يجب كون وهبتك لأهلك مجازا عن رددتك عليهم فيصير إلى الحالة الأولى وهي البينونة فلا يحتاج إلى قبولهم إياها في ثبوت البينونة ، والحقي بأهلك مثله في صيرورتها إلى الحالة الأولى ، وقوله : وهبتك لأبيك أو لابنك مثله بخلاف الأجانب ( فلا بد من النية ) أي في الحكم بوقوع الطلاق ( إلا أن يكون في حالة مذاكرة الطلاق ) وهو حال سؤالها الطلاق أو سؤال أجنبي ( فيقع في القضاء ) وإن قال : أردت غير الطلاق ( ولا يقع فيما بينه وبين الله تعالى إلا أن ينويه ) ويستثنى منها اختاري لما نذكر وأمرك بيدك .

قال المصنف ( سوى ) أي القدوري ( بين هذه الألفاظ وقال : لا يصدق حال مذاكرة الطلاق في القضاء ) إذا قال : نويت غير الطلاق من المحتملات ، وهكذا فعل شمس الأئمة في المبسوط والمشايخ [ ص: 65 ] كفخر الإسلام وغيره ( قالوا وهذا ) أي كونه لا يصدق إذا ادعى نية غير الطلاق بعد سؤال الطلاق إنما هو ( فيما لا يصلح ردا ) أما ما يصلح له فيصدق إذا ادعى الرد .

ثم استأنف تقسيما ضابطا فقال : الأحوال هنا ثلاثة : حالة مطلقة وفسرها بحالة الرضا . وحالة مذاكرة الطلاق وهي ما قدمنا . وحالة الغضب . والكنايات في الطلاق ثلاثة أقسام : ما يصلح جوابا لطلبها الطلاق : أي التطليق ويصلح ردا له . وما يصلح جوابا ولا يصلح ردا له . وما يصلح جوابا وشتما . ففي حالة الرضا يصدق في الكل إذا قال لم أرد الطلاق لأنه لا ظاهر يكذبه ، وفي حالة المذاكرة للطلاق لا يصدق فيما يصلح جوابا لا ردا كخلية برية بائن بتة بتلة حرام اعتدي استتري اختاري أمرك بيدك ، ويصدق فيما يصلح له وللرد مثل اخرجي اذهبي افلحي ، تقول العرب افلح عني : أي اذهب عني ، واغربي قومي تقنعي ، ومرادفها كاستتري وتخمري ، ومعنى الرد في هذه : أي اشتغلي بالتقنع الذي هو أنفع لك من القناع وكذا أخواه ، ويجوز فيه بخصوصه كونه من القناعة وفي حال الغضب يصدق فيما يصلح جوابا وردا ، وما يصلح جوابا وشتيمة لا ردا كخلية برية بتة بتلة حرام وما يجري مجراه ، إذ يحتمل خلية من الخير برية منه بتة بتلة : أي مقطوعة عنه ، ولا يصدق فيما يصلح للطلاق دون الرد والشتم كاعتدي اختاري أمرك بيدك استتري .

وعرف مما قدمنا أن اختاري أمرك بيدك لا يقع بهما الطلاق إلا بإيقاعها بعده ، وإنما هما كنايتان عن التفويض حتى لا يدخل الأمر في يدها إلا بالنية . واعلم أن حقيقة التقسيم في الأحوال قسمان : حالة الرضا ، وحالة الغضب . وأما حالة المذاكرة فتصدق مع كل منهما ، بل لا يتصور سؤالها الطلاق إلا في إحدى الحالتين لأنهما ضدان لا واسطة بينهما ، فتحرير التقرير أن [ ص: 66 ] في حالة الرضا المجرد عن سؤال الطلاق يصدق في الكل أنه لم يرد الطلاق ، وفي حالة الرضا المسئول فيها طلاق يصدق فيما يصلح ردا أنه لم يرده ، وفي حالة الغضب المجرد عن سؤال الطلاق يصدق فيما يصلح سبا أو ردا أنه لم يرد به إلا السب أو الرد ، ولا يصدق فيما يصلح جوابا فقط ، وفي حالة الغضب المسئول فيها الطلاق يجتمع في عدم تصديقه في المتمحض جوابا سببان : المذاكرة والغضب ، وكذا في قبول قوله فيما يصلح ردا لأن كلا من المذاكرة والغضب يستقل بإثبات قبول قوله في دعوى عدم إرادة الطلاق .

وفيما يصلح للسبب ينفرد الغضب بإثباته فلا تتغير الأحكام ، وحينئذ فالأولى أن تعرف الحال المطلقة بالمطلقة عن قيد الغضب والمذاكرة ( قوله : وعن أبي يوسف إلخ ) ألحق أبو يوسف بالتي تحتمل السب ألفاظا أخرى وهي : لا ملك لي عليك لا سبيل لي عليك خليت سبيلك فارقتك ، فهذه أربعة ألفاظ ذكرها الولوالجي ، وذكرها العتابي خمسة : لا سبيل لا ملك خليت سبيلك الحقي بأهلك حبلك على غاربك .

وفي الإيضاح وشرح الجامع الصغير لشمس الأئمة ذكر خمسة هي هذه ، إلا أنه ذكر مكان حبلك على غاربك فارقتك فتتم ستة ألفاظ .

ووجه احتمالها الست أن لا ملك لي : يعني أنت أقل من أن تنسبي إلي بالملك ولا سبيل لي عليك لزيادة شرك وخليت سبيلك وفارقتك والحقي بأهلك وحبلك على غاربك : أي أنت مسيئة لا يشتغل أحد بتأديبك إذ لا طاقة لأحد بممارستك . وفي رواية جامع فخر الإسلام والفوائد الظهيرية أن أبا يوسف ألحقها بالثلاث التي لا يدين فيها في الغضب كما لا يدين في المذاكرة ، وهي اعتدي اختاري أمرك بيدك .

وفي شرح مختصر الكرخي قال أبو حنيفة : لا سبيل لي عليك تقنعي استتري اخرجي اذهبي قومي تزوجي لا نكاح لي عليك يدين في الغضب لأن هذه الألفاظ تذكر للإبعاد ، وحالة الغضب يبعد الإنسان عن الزوجة فيه ، وكذا في حال ذكر الطلاق ، وهذا لأن لا سبيل لي عليك يحتمل علي طلاقك وهو يذكر للامتناع عن الطلاق وانطلقي وانتقلي كالحقي ولا رواية في أعرتك طلاقك ظاهرة .

وعن أبي يوسف يقع خلافا لمحمد ، وفي النوازل عن أبي حنيفة يصير الطلاق في يدها لأنه ملكها منافع الطلاق ومنفعة الطلاق التطليق إن شاءت كما كان للزوج ، ولو قال : طلاقك علي لا يقع أصلا ، وروى الحسن عن أبي حنيفة : لو قال : وهبتك لأبيك أو لابنك أو للأزواج فهو طلاق لأن المرأة ترد على هؤلاء بالطلاق عادة ، ولو قال : لأختك أو خالتك أو عمتك أو لفلان الأجنبي ونحوه لم يكن طلاقا وإن نوى لأنها لا ترد بالطلاق عليهم ، ولو زاد على اذهبي فقال : اذهبي فبيعي ثوبك لا يقع عند أبي يوسف خلافا لزفر لأن [ ص: 67 ] اذهبي يعمل فيه نية الطلاق ويبقى الزائد مشورة فلا يتغير به حكم الطلاق .

ولأبي يوسف أن معناه عادة لأجل البيع فكان صريحه خلاف المنوي . ومن الكنايات تنحي عني . واختلف في لم يبق بيني وبينك عمل ، قيل يقع إذا نوى وقيل لا ، ومثله لم يبق بيني وبينك شيء .

وفي أربعة طرق عليك مفتوحة لا يقع بالنية إلا أن يقول خذي أيها شئت ، ثم عن محمد في رواية أسد يقع ثلاثا ، وقال ابن سلام : أخاف أن يقع ثلاثا لمعاني كلام الناس كأنه يريد أن مراد الناس بمثله اسلكي الطرق الأربعة وإلا فاللفظ إنما يعطي الأمر بسلوك أحدها .

والأوجه أن يقع واحدة بائنة ، ومنها نجوت مني .

وقال المتأخرون في وهبتك طلاقك : لا يقع ، وقيل يقع ، ولا يقع في أبحتك طلاقك وإن نوى أو صفحت عنه ولا بأحببت طلاقك أو رضيته أو هويته أو أردته وإن نوى ، وأما طال بلا قاف فأطلق بعضهم الوقوع به وفصل بعضهم فقال مع إسكان اللام يحتاج إلى النية ومع كسرها يقع بلا نية والوجه إطلاق التوقف على النية مطلقا لأنه بلا قاف ليس صريحا لعدم غلبة الاستعمال ولا الترخيم لغة جائز في غير النداء فانتفى لغة وعرفا فيصدق قضاء مع اليمين ، هذا في حالة الرضا وعدم مذاكرة الطلاق ، أما في أحدهما فيقع قضاء أسكتها أو لا ، وفيه أيضا النظر المذكور لأنه إيقاع بلا لفظ له ولا لأعم منه ليكون كناية وليس بمجاز فيه ، وهذا البحث يوجب أن لا يقع به أصلا وإن نوى ، ومثل هذا البحث يجري في التطليق بالتهجي كأنت ط ا ل ق لأنه ليس طلاقا ولا كناية لأن موضوعها يحتمل أشياء ، وأوضاع هذه المسميات هي حروف ، ولذا لو قرأ آية السجدة تهجيا لا يجب السجود لأنه ليس قرآنا ، ولا مخلص إلا بعدم اشتراط غلبة الاستعمال في الصريح والاكتفاء فيه بكون اللفظ دالا عليه وضعا أو عرفا وحينئذ يقع بالتهجي في القضاء ، ولو ادعى عدم النية ، وكذا بطال بلا قاف ، وفي قوله لآخر : احمل إليها طلاقها أو أخبرها به أو بشرها تطلق في الحال لأن الحمل لا يتحقق قبل المحمول ، ومنها أنت علي كالميتة أو الخمر أو لحم الخنزير يقع بالنية .

وفي الكافي للشهيد : إذا قال لامرأته : هذه عمتي أو خالتي أو محرم من الرضاع وثبت عليه بأن سأل عن ذلك فأصر عليه فرق بينهما ، ولو قال مزحت أو كذبت أو وهمت أو نسيت صدق ولا يفرق استحسانا .

والقياس أن يفرق مطلقا ولا يصدق لأنه أقر بالتحريم .

وجه الاستحسان أن هذا إيجاب تحريم فلا يقع إلا بالدوام عليه ، ولو قال : هذه بنتي من نسب وثبت عليه ولها نسب معروف لم يفرق لأن الظاهر يكذبه ، وكذا في هي أمي وله أم معروفة وإن لم يكن لها نسب معروف ومثلها يولد لمثله وثبت عليه فرق وكذا هي أختي .



واختلف في لست لي بامرأة وما أنا لك بزوج ونوى الطلاق يقع عند أبي حنيفة ، وقالا لا لأن نفي النكاح ليس طلاقا بل كذب فهو كقوله : لم أتزوجك أو والله ما أنت لي امرأة ، أو لو سئل هل لك امرأة ؟ فقال : لا ونوى الطلاق لا يقع كذا هنا .

وله أنها تحتمله : أي لست لي بامرأة لأني طلقتك فيصح نفيه كما في لا نكاح بيني وبينك ومسألة الحلف ممنوعة ، وبعد التسليم نقول بدلالة اليمين علم أنه أراد النفي عن الماضي لا في الحال لأن الحلف يكون فيما يدخله الشك لا في إنشاء النفي في الحال .

وقوله : لم أتزوجك [ ص: 68 ] جحود لا يحتمل الإنشاء إذ الطلاق لا يتصور بلا نكاح ، وكذا بدلالة السؤال عرف أنه أراد النفي في الماضي . وفي فتاوى صاحب الناقع : إذا قالت لزوجها لست لي بزوج فقال صدقت ينوي طلاقها يقع عند أبي حنيفة خلافا لهما ، وعلى هذا الخلاف إذا قال : لست أو ما أنت امرأتي أو لست أو ما أنا زوجك عنده يقع بالنية وألغياه ، ويتصل بالكنايات الطلاق بالكتابة لو كتب طلاقا أو عتاقا على ما لا يستبين فيه الخط كالهواء والماء والصخرة الصماء لا يقع نوى به أو لم ينو ، وكذا إذا كتب على لوح أو حائط أو أرض أو في كتاب إلا أنه لا يستبين لا يقع وإن نوى به الطلاق لأن مثل هذه الكتابة كصوت لا يستبين منه حروف ، فلو وقع وقع بمجرد النية ، فإن كان مستبينا لكن لا على رسم الرسالة والخطاب فإنه ينوي فيه ، كالكلام المكنى لا يقع إلا بالنية لأن الإنسان قد يكتب مثله للإيقاع وقد يكتب مثله لتجربة الخط ، فإن كان صحيحا يبين نيته بلسانه ، وإن كان أخرس يبين نيته بكتابته هذا إذا لم يكن خطابا أو رسالة ، فإن كان على رسم كتب الرسالة بأن كتب أما بعد يا فلانة فأنت طالق أو أنت حر أو إذا وصل إليك كتابي فأنت طالق فإنه يقع به الطلاق والعتاق ، ولا يصدق في عدم النية ، كما لو قال : أنت طالق ثم قال : نويت من وثاق لا يصدق في القضاء لأنه خلاف الظاهر ، ثم يقع عقيب الكتابة إذا لم يعلقه مثل أن يكتب : امرأته طالق أو فلانة ، بخلاف ما إذا كتب إذا وصل إليك فإنه لا يقع بدون الوصول إليها ، وقالوا فيمن كتب كتابا على وجه الرسالة وفيه إذا وصل إليك كتابي فأنت طالق ثم بدا له فمحا ذكر الطلاق منه .

وأنفذه وأسطره باقية وقع إذا وصل ، ولو محاه حتى لم يبق فيه كلام يكون رسالة لم يقع ، وإن وصل لعدم وجود الشرط وهو وصول الكتاب وعليه الأئمة الثلاثة ، وما وقع في تفصيل بعضهم من أنه إذا محا ما سوى كتابة الطلاق وأنفذه فوصل إليها لا يقع فمبني على أن الرسالة المتضمنة لمجرد الطلاق لا تكون كتابا ، وفيه نظر .

وما قيل من أنه لو محا أكثر ما قبله فأرسله لا يقع أبعد من الأول إذ مقتضاه انتفاء الكتاب بانتفاء ذكر كثرة الحوائج وليس الأمر كذلك . .



ولو كتب الصحيح إلى امرأته بطلاقها ثم أنكر الكتاب وقامت عليه البينة أنه كتبه بيده فرق بينهما في القضاء ، أما فيما بينه وبين الله تعالى إن كان لم ينو به الطلاق فهي امرأته ، ولو كتب إليها : أما بعد أنت طالق إن شاء الله تعالى ، إن كان موصولا بكتابته لا تطلق ، وإن كتب الطلاق ثم فتر فترة ثم كتب إن شاء الله يقع الطلاق لأن المكتوب إلى الغائب كالملفوظ ، كذا في الفتاوى الكبرى للخاصي والخلاصة .

وفيها معزوا إلى المنتقى : إذا كتب كتاب الطلاق ثم نسخه في كتاب آخر أو أمر غيره حين كتب ولم يمل هو فأتاها الكتابان طلقت تطليقتين قضاء ، وفيما بينه وبين الله تعالى تقع واحدة انتهى . وعلى هذا لو وصل أحدهما تقع واحدة قضاء وديانة ، ولا يخفى أن هذا فيما إذا كان الطلاق معلقا بوصول الكتاب ، وأما إذا لم يكن معلقا فلا إشكال في أنه يقع ثنتان قضاء لا ديانة إلا أن ينوي به طلاقا آخر ، وكل ما ذكرناه ثابت في حق الأخرس نحوه إن كان يكتب ، وإنما يعرف ذلك منه بأن يسأل بكتاب فيجيب بكتابة بالنية ، فإن كان لا يكتب وله إشارة معلومة يعرف بها طلاقه ونكاحه وبيعه فهي كالكلام في حقه ، وإن لم يعرف منه ذلك أو شككنا فيه فهو باطل وهذا استحسان .

والقياس في جميع ذلك أنه باطل لأنه لا يتكلم ، وقد ذكر المصنف أحكام الأخرس في هذه في آخر الكتاب .




الخدمات العلمية