الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 74 - 76 ] باب تفويض الطلاق فصل في الاختيار ( وإذا قال لامرأته : اختاري ينوي بذلك الطلاق أو قال لها : طلقي نفسك فلها أن تطلق نفسها ما دامت في مجلسها ذلك ، فإن قامت منه أو أخذت في عمل آخر خرج الأمر من يدها ) لأن المخيرة لها المجلس بإجماع الصحابة رضي الله عنهم أجمعين ، [ ص: 77 ] ولأنه تمليك الفعل منها ، والتمليكات تقتضي جوابا في المجلس كما في البيع ، لأن ساعات المجلس اعتبرت ساعة [ ص: 78 ] واحدة ، إلا أن المجلس تارة يتبدل بالذهاب عنه وتارة بالاشتغال بعمل آخر ، إذ مجلس الأكل غير مجلس [ ص: 79 ] المناظرة ومجلس القتال غيرهما .

ويبطل خيارها بمجرد القيام لأنه دليل الإعراض ، بخلاف الصرف والسلم لأن المفسد هناك الافتراق من غير قبض ، ثم لا بد من النية في قوله : اختاري لأنه يحتمل تخييرها في نفسها ويحتمل تخييرها في تصرف آخر غيره ( فإن اختارت نفسها في قوله اختاري كانت واحدة بائنة ) .

والقياس أن لا يقع بهذا شيء ، وإن نوى الزوج الطلاق لأنه لا يملك الإيقاع بهذا اللفظ فلا يملك التفويض إلى غيره إلا أنا استحسناه لإجماع الصحابة رضي الله عنهم ، ولأنه بسبيل من أن يستديم نكاحها أو يفارقها فيملك إقامتها مقام نفسه في حق هذا الحكم ، ثم الواقع بها بائن لأن اختيارها نفسها بثبوت اختصاصها بها وذلك في البائن ( ولا يكون ثلاثا وإن [ ص: 80 ] نوى الزوج ذلك ) لأن الاختيار لا يتنوع ، بخلاف الإبانة لأن البينونة قد تتنوع .

[ ص: 76 ]

التالي السابق


[ ص: 76 ] ( باب تفويض الطلاق ) ( فصل في الاختيار ) . لما فرغ من بيان الطلاق بولاية المطلق نفسه شرع في بيانه بولاية مستفادة من غيره ، وتحت هذا الصنف ثلاثة أصناف : التفويض بلفظ التخيير وبلفظ الأمر باليد وبلفظ المشيئة ( قوله : إذا قال لامرأته : اختاري ينوي بذلك الطلاق ) يعني ينوي تخييرها فيه ( أو قال لها : طلقي نفسك فلها أن تطلق نفسها ما دامت في مجلسها ذلك ) وإن طال يوما أو أكثر ولم يتبدل بالأعمال ( فإن قامت منه أو أخذت في عمل آخر خرج الأمر من يدها ; لأن المخيرة لها خيار المجلس بإجماع الصحابة رضوان الله عليهم ) قال ابن المنذر : واختلفوا في الرجل يخير زوجته ، فقالت طائفة : أمرها بيدها فإن قامت من مجلسها فلا خيار لها ، روينا هذا القول عن عمر بن الخطاب وعثمان وابن مسعود رضوان الله تعالى عنهم أجمعين ، وفي أسانيدها مقال ، وبه قال جابر بن عبد الله ، وقال به عطاء وجابر بن زيد ومجاهد والشعبي والنخعي ومالك وسفيان الثوري والأوزاعي والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي ، وفيه قول ثان وهو أن أمرها بيدها في ذلك المجلس وفي غيره ، وهذا قول الزهري وقتادة وأبي عبيد وابن نصر وبه نقول ، ويدل على صحته { قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها لا تعجلي حتى تستأمري أبويك } وحكى صاحب [ ص: 77 ] المغني هذا القول عن علي فاعترض على نقل الإجماع .

والجواب أن الرواية عن علي لم تستقر ، فقد روي عنه كقول الجماعة ، ولذا نص في بلاغات محمد رحمه الله أنه قائل بالاقتصار على المجلس قال : بلغنا عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وجابر رضي الله عنهم في الرجل يخير امرأته أن لها الخيار ما دامت في مجلسها ذلك ، فإذا قامت من مجلسها فلا خيار لها فيكون إجماعا سكوتيا من قول المذكورين وسكوت غيرهم ، وأين من نقل عنهم من التابعين القول الأول ممن نقل عنهم الثاني . وقوله : في أسانيدها مقال لا يضر بعد تلقي الأمة بالقبول ، مع أن رواية عبد الرزاق عن ابن مسعود وجابر بن عبد الله جيدة .

وأما التمسك بقوله صلى الله عليه وسلم لعائشة " لا تعجلي إلخ " فضعيف ; لأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن تخييره ذلك هذا التخيير المتكلم فيه وهي أن توقع بنفسها بل على أنها إن اختارت نفسها طلقها ; ألا ترى إلى قوله تعالى الآية التي هي سبب التخيير منه صلى الله عليه وسلم { إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا } ( قوله : ولأنه تمليك الفعل منها والتمليكات تستدعي جوابا في المجلس ) أو رد لو كان تمليكا لم يبق الزوج مالكا للطلاق في ذلك المجلس لاستحالة كون الشيء مملوكا كله لأكثر من واحد في زمان واحد وهو منتف ، فإنه لو طلقها بعد التخيير وقع .

وأيضا لو صارت مالكة كان من قال لامرأته : طلقي نفسك ثم حلف أن لا يطلقها فطلقت نفسها لا يحنث . وقد نص محمد على أنه يحنث وهو يقتضي أن تكون نائبة عنه لا مالكة . وأيضا يصح عندنا توكيل المديون بإبراء نفسه ، وهذا يرد على تعليل كونه تمليكا بأنها عاملة لنفسها . وأجيب بأن المراد بالمالك هنا من يقدر على الفعل لاختياره بحيث لا يلحقها [ ص: 78 ] إثم على نفس الفعل ولا خلف في عدم فعله ، بخلاف الوكيل فإنه مخلف إن لم يفعل ويتصور الملك على هذا الوجه من اثنين فإن تمليك الفعل هكذا ، ولزوم انتفاء الملك بالتمليك في الأعيان لا في ملك الأفعال للقطع بثبوت ملك كل من مائة رجل لفعل واحد كملا وهو الاقتصاص ، ومسألة اليمين ممنوعة ، والحنث قول محمد ، والمنع مذكور في الزيادات لصاحب المحيط ، وأما المديون فوكيل ، وإنما وقع عمله في الإبراء لرب الدين باعتبار أمره ، وثبت أثر التصرف لنفسه في ضمنه وهو فراغ ذمته ، وفي هذا نظر نبريه في تطليقها نفسها بأن يقال : هي وكيلة فهي في نفس فعل الإيقاع عاملة له ، وثبوت الحاصل لها ضمنا ، ولو التزم كون المديون مملكا لم يصح لانتفاء لازمه لأن للدائن أن يرجع قبل الإبراء وسنذكر ما هو الأوجه .

واعلم أن الجواب الذي يستدعيه التمليك هو القبول في المجلس ، والجواب المتكلم فيه هو تطليقها نفسها وهو بعد تمام التمليك فليس هذا الوجه مستلزما للمطلوب ، ولهذا قال في الذخيرة : إن هذا التمليك يخالف سائر التمليكات من حيث إنه يبقى إلى ما وراء المجلس إن كانت غائبة ، ولا يتوقف على القبول ، فظهر أن هذا التمليك بخصوصه لا يستدعي الجواب الذي يتم به التمليكات ، ولكونه تمليكا يتم بالمملك وحده بلا قبول لا يقدر على الرجوع لا لكونه متضمنا معنى التعليق لأنه اعتبار يمكن في سائر الوكالات لتضمنها معنى إن بعته فقد أجزته ، والولايات لتضمنها إذا حكمت بين من شئت فقد أجزته فكان يقتضي أن لا يصح الرجوع والعزل فيهما فلا حاجة إليه لهذا المعنى لابتنائه على ما ذكرنا ، لكن إذا كان الملك يثبت فيه بالمملك وحده لم يصح القول بأنه يخالف سائر التمليكات من حيث إنه يبقى إلى ما وراء المجلس ، بل بقاؤه هو الموافق لسائر التمليكات التي يثبت الملك عندها ، وإنما خالفها بما ذكرنا وباعتبار اقتصاره على المجلس ، والمستند فيه إجماع الصحابة .

واعلم أن الاقتصار على المجلس في الخطاب المطلق ، أما لو قال : طلقي نفسك متى شئت فهو لها في المجلس وغيره ، وإذا فوض وهي غائبة اعتبر مجلس علمها ، ولو قال : جعلت لها أن تطلق نفسها اليوم اعتبر مجلس علمها في ذلك اليوم ، فلو مضى اليوم ثم علمت يخرج الأمر من يدها ، وكذا كل وقت قيد التفويض به وهي غائبة ولم تعلم حتى انقضى بطل خيارها في المجلس ، وليس للزوج أن يرجع قبل انقضاء المجلس لأنه بمعنى اليمين ، إذ هو تعليق الطلاق بتطليقها نفسها وقد علمت ما هو التحقيق ( قوله : إذ مجلس إلخ ) لو كانا يتحدثان فأخذا [ ص: 79 ] في الأكل انقضى مجلس الحديث وجاء مجلس الأكل ، فلو انتقلا إلى المناظرة انقضى مجلس الأكل وجاء مجلس المناظرة ، ولو خيرها فلبست ثوبا أو شربت لا يبطل خيارها لأن العطش قد يكون شديدا يمنع التأمل ، ولبس الثوب قد يكون لتدعو شهودا ، بخلاف ما لو أكلت ما ليس قليلا أو امتشطت أو أقامها الزوج قسرا فإنه يخرج الأمر من يدها لظهور الإعراض به .

ووجه بأن في الإقامة أنها يمكنها ممانعته في القيام أو تبادر الزوج باختيارها نفسها فعدم ذلك دليل الإعراض ، وكذا إذا خاضت في كلام آخر ، قال تعالى { حتى يخوضوا في حديث غيره } أفاد أنه إعراض عن الأول ( قوله : ثم لا بد من النية ) أي نية الطلاق في قوله ( اختاري لأنه يحتمل تخييرها في نفسها ) بالإقامة على النكاح وعدمه ( ويحتمل تخييرها في غيره ) من نفقة أو كسوة ، فإذا اختارت نفسها فأنكر قصد الطلاق فالقول له مع يمينه ، أما إذا خيرها بعد مذاكرة الطلاق فاختارت نفسها ثم قال : لم أنو الطلاق لا يصدق في القضاء ، وكذا إذا كانا في غضب أو شتيمة ، وإذا لم يصدق في القضاء لا يسع المرأة أن تقيم معه إلا بنكاح مستقبل ( قوله والقياس أن لا يقع بها شيء ) لأن التمليك فرع ملك المملك وهو لا يملك الإيقاع بهذه اللفظة ، لو قال : اخترت نفسي منك أو اخترتك من نفسي ناويا لا يقع ، إلا أنا استحسنا الوقوع باختيارها بإجماع الصحابة رضي الله عنهم ( قوله ولأنه بسبيل إلخ ) ظاهره أنه وجه آخر للاستحسان يقابل القياس ويقتضي الوقوع بخصوص هذه اللفظة ، وهو لا يقتضي ذلك وإنما يقتضي جواز إقامتها مقامه في الفراق ولا تلاقي بينهما ، بل يقتضي أن لا يقع به لأن إقامتها مقام نفسه فيما يملكه ولا يملك الإيقاع بهذه اللفظة فهو وجه القياس

( قوله ثم الواقع بها بائن ) روي عن زيد بن ثابت أنه ثلاث ، وبه أخذ مالك في المدخول بها ، وفي غيرها يقبل منه دعوى الواحدة ، وعن عمر وابن عباس وابن مسعود واحدة رجعية وبه أخذ الشافعي وأحمد ، وثبت عن علي رضي الله عنه أن الواقع به واحدة بائنة توسط بين الغايتين .

ورجح قول عمر وابن مسعود بأن الكتاب دل على أن الطلاق يعقب الرجعة إلا أن تكون الطلقة الثالثة ، وأنت علمت أنه أخرج منه الطلاق بمال وقبل الدخول ولزم إخراج الطلاق بما دل على البينونة من الألفاظ على ما أسلفناه ولفظ اخترت نفسي ، بل نفس تخييرها يفيد ملكها نفسها إذا اختارتها لأنه ينبئ عن الاستخلاص والصفاء من ذلك الملك وهو بالبينونة ، وإلا لم تحصل فائدة التخيير إذا كان له أن يراجعها شاءت أو أبت .

وقد روى الترمذي عن عبد الله بن مسعود وعمر أن الواقع بها بائنة كما روي عنهما الرجعية ، فاختلفت الرواية عنهما . وقد ترجح بما ذكرنا قول علي وعمر وابن مسعود ، ثم هو غير متنوع لأنه إنما يفيد الخلوص والصفاء ، والبينونة تثبت فيه مقتضى فلا يعم ، بخلاف أنت بائن ونحوه فلا يقع الثلاث في قوله : اختاري وإن نواها [ ص: 80 ] بخلاف التفويض بقوله : أمرك بيدك حيث تصح نية الثلاث فيه لأن الأمر شامل بعمومه لمعنى الشأن للطلاق فكان من أفراده لفظا والمصدر يحتمل نية العموم .

وقيل الفرق أن الوقوع بلفظ الاختيار على خلاف القياس بإجماع الصحابة ، وإجماعهم انعقد على الطلقة الواحدة ، بخلاف تلك المسائل : أي بائن ونحوه لأن الوقوع مقتضى نفس الألفاظ ومقتضاها البينونة وهي متنوعة ، وفيه نظر لانتفاء إجماعهم على الواحدة لما قدمنا من قول زيد بن ثابت أن الواقع به ثلاث قولا بكمال الاستخلاص .




الخدمات العلمية