الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون . وقالوا أآلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون . إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل . ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون . وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها واتبعون هذا صراط مستقيم . ولا يصدنكم الشيطان إنه لكم عدو مبين . ولما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه فاتقوا الله وأطيعون . إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم . فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم . هل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة وهم لا يشعرون .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: ولما ضرب ابن مريم مثلا أكثر المفسرين على أن هذه الآية نزلت في مجادلة ابن الزبعرى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزل قوله: إنكم وما تعبدون من دون الله . . . [الآية] [الأنبياء: 98] . وقد شرحنا القصة في سورة [الأنبياء: 101] . والمشركون هم الذين ضربوا عيسى مثلا لآلهتهم [ ص: 324 ] وشبهوه بها، لأن تلك الآية إنما تضمنت ذكر الأصنام، لأنها عبدت من دون الله، فألزموه عيسى، وضربوه مثلا لأصنامهم، لأنه معبود النصارى . والمراد بقومه: المشركون .

                                                                                                                                                                                                                                      فأما يصدون فقرأ ابن عامر، ونافع، والكسائي: بضم الصاد، وكسرها الباقون; قال الزجاج : ومعناهما جميعا: يضجون، ويجوز أن يكون معنى المضمومة: يعرضون . وقال أبو عبيدة: من كسر الصاد، فمجازها: يضجون، ومن ضمها، فمجازها: يعدلون .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: وقالوا أآلهتنا خير أم هو المعنى: ليست خيرا منه، فإن كان في النار لأنه عبد من دون الله، فقد رضينا أن تكون آلهتنا بمنزلته .

                                                                                                                                                                                                                                      ما ضربوه لك إلا جدلا أي: ما ذكروا عيسى إلا ليجادلوك به، لأنهم قد علموا أن المراد بـ "حصب جهنم" ما اتخذوه من الموات بل هم قوم خصمون أي: أصحاب خصومات .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: وجعلناه مثلا أي: آية وعبرة لبني إسرائيل يعرفون به قدرة الله على ما يريد، إذ خلقه من غير أب .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 325 ] ثم خاطب كفار مكة، فقال: ولو نشاء لجعلنا منكم فيه قولان .

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما: أن المعنى: لجعلنا بدلا منكم ملائكة ; ثم في معنى "يخلفون" ثلاثة أقوال . أحدها: يخلف بعضهم بعضا، قاله ابن عباس . والثاني: يخلفونكم ليكونوا بدلا منكم، قاله مجاهد . والثالث: يخلفون الرسل فيكونون رسلا إليكم بدلا منهم، حكاه الماوردي .

                                                                                                                                                                                                                                      والقول الثاني: أن المعنى: "ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة" أي: قلبنا الخلقة فجعلنا بعضكم ملائكة يخلفون من ذهب منكم، ذكره الماوردي .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: وإنه لعلم للساعة في هاء الكناية قولان .

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما: [أنها] ترجع إلى عيسى عليه السلام . ثم في معنى الكلام قولان . أحدهما: نزول عيسى من أشراط الساعة يعلم به قربها، وهذا قول ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والضحاك، والسدي . والثاني: أن إحياء عيسى الموتى دليل على الساعة وبعث الموتى، قاله ابن إسحاق .

                                                                                                                                                                                                                                      والقول الثاني: أنها ترجع إلى القرآن، قاله الحسن، وسعيد بن جبير .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ الجمهور: "لعلم" بكسر العين وتسكين اللام; وقرأ ابن عباس، وأبو رزين ، وأبو عبد الرحمن، وقتادة، وحميد، وابن محيصن: بفتحهما .

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن قتيبة : من قرأ بكسر العين، فالمعنى أنه يعلم به قرب الساعة، ومن فتح العين واللام، فإنه بمعنى العلامة والدليل .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 326 ] قوله تعالى: فلا تمترن بها أي: فلا تشكن فيها واتبعون على التوحيد هذا الذي أنا عليه صراط مستقيم .

                                                                                                                                                                                                                                      ولما جاء عيسى بالبينات قد شرحنا هذا في [البقرة: 87] .

                                                                                                                                                                                                                                      قال قد جئتكم بالحكمة وفيها قولان . أحدهما: النبوة، قاله عطاء، والسدي . والثاني: الإنجيل، قاله مقاتل .

                                                                                                                                                                                                                                      ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه [أي]: من أمر دينكم; وقال مجاهد: "بعض الذي تختلفون فيه" من تبديل التوراة; وقال ابن جرير: من أحكام التوراة . وقد ذهب قوم إلى أن البعض هاهنا بمعنى الكل . وقد شرحنا ذلك في [حم المؤمن: 28]; قال الزجاج : والصحيح أن البعض لا يكون في معنى الكل، وإنما بين لهم عيسى بعض الذي اختلفوا فيه مما احتاجوا إليه; وقد قال ابن جرير: كان بينهم اختلاف في أمر دينهم ودنياهم، فبين لهم أمر دينهم فقط . وما بعد هذا قد سبق بيانه [النساء: 175، مريم: 37] إلى قوله: هل ينظرون يعني كفار مكة .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية