الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا فبشره بعذاب أليم

                                                                                                                                                                                                اللهو كل باطل ألهى عن الخير وعما يعني و لهو الحديث نحو السمر بالأساطير والأحاديث التي لا أصل لها، والتحدث بالخرفات والمضاحيك وفضول الكلام، وما لا ينبغي من كان وكان، ونحو الغناء وتعلم الموسيقار، وما أشبه ذلك. وقيل: نزلت في النضر بن الحرث، وكان يتجر إلى فارس، فيشتري كتب الأعاجم فيحدث بها قريشا ويقول: إن كان محمد يحدثكم بحديث عاد وثمود فأنا أحدثكم بأحاديث رستم وبهرام والأكاسرة وملوك الحيرة، فيستملحون حديثه ويتركون استماع القرآن. وقيل: كان يشتري المغنيات. فلا يظفر بأحد يريد الإسلام إلا انطلق به إلى قينته فيقول: أطعميه واسقيه وغنيه، ويقول: هذا خير مما يدعوك إليه محمد من الصلاة والصيام وأن تقاتل بين يديه. وفى حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يحل بيع المغنيات ولا شراؤهن ولا التجارة فيهن ولا أثمانهن ". وعنه صلى الله عليه وسلم: "ما من رجل يرفع صوته بالغناء إلا بعث الله عليه شيطانين: أحدهما [ ص: 7 ] على هذا المنكب والآخر على هذا المنكب، فلا يزالان يضربانه بأرجلهما حتى يكون هو [ ص: 8 ] الذي يسكت"، وقيل: الغناء منفذة للمال، مسخطة للرب، مفسدة للقلب. فإن قلت: ما معنى إضافة اللهو إلى الحديث؟ قلت: معناها التبيين، وهي الإضافة بمعنى من، وأن يضاف الشيء إلى ما هو منه، كقولك: صفة خز، وباب ساج. والمعنى: من يشتري اللهو من الحديث; لأن اللهو يكون من الحديث ومن غيره، فبين بالحديث. والمراد بالحديث. الحديث المنكر، كما جاء في الحديث: "الحديث في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل البهيمة الحشيش"، ويجوز أن تكون الإضافة بمعنى "من" التبعيضية، كأنه قيل: ومن الناس من يشتري بعض الحديث الذي هو اللهو منه. وقوله: "يشتري" إما من الشراء، على ما روي عن النضر: من شراء كتب الأعاجم أو من شراء القيان. وإما من قوله: اشتروا الكفر بالإيمان [آل عمران : 177] أي: استبدلوه منه واختاروه عليه. وعن قتادة : اشتراؤه: استحبابه، يختار حديث الباطل على حديث الحق. وقرئ: (ليضل) بضم الياء وفتحها. و سبيل الله دين الإسلام أو القرآن. فإن قلت: القراءة بالضم بينة; لأن النضر كان غرضه باشتراء اللهو: أن يصد الناس عن الدخول في الإسلام واستماع القرآن ويضلهم عنه، فما معنى القراءة بالفتح؟ قلت: فيه معنيان، أحدهما: ليثبت على ضلاله الذي كان عليه، ولا يصدف عنه، ويزيد فيه ويمده، فإن المخذول كان شديد [ ص: 9 ] الشكيمة في عداوة الدين وصد الناس عنه. والثاني: أن يوضع ليضل موضع ليضل، من قبل أن من أضل كان ضالا لا محالة، فدل بالرديف على المردوف. فإن قلت: ما معنى قوله: بغير علم ؟ قلت: لما جعله مشتريا لهو الحديث بالقرآن قال: يشتري بغير علم بالتجارة وبغير بصيرة بها، حيث يستبدل الضلال بالهدى والباطل بالحق. ونحوه قوله تعالى: فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين [البقرة: 16] أي: وما كانوا مهتدين للتجارة بصراء بها. وقرئ: (ويتخذها) بالنصب والرفع عطفا على يشتري. أو ليضل، والضمير للسبيل; لأنها مؤنثة، كقوله تعالى: وتصدون عن سبيل الله من آمن به وتبغونها عوجا . ولى مستكبرا : زاما لا يعبأ بها ولا يرفع بها رأسا: تشبه حاله في ذلك حال من لم يسمعها وهو سامع كأن في أذنيه وقرا أي: ثقلا ولا وقر فيهما، وقرئ بسكون الذال. فإن قلت: ما محل الجملتين المصدرتين بكأن؟ قلت: الأولى حال من "مستكبرا" والثانية من "لم يسمعها"، ويجوز أن تكونا استئنافين، والأصل في كأن المخففة: كأنه، والضمير: ضمير الشأن.

                                                                                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                                                                                الخدمات العلمية