الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
126 - قوله: (ص): "هو نحو حديث مشهور عن سالم جعل عن نافع ".

أقول: هذا تعريف بالمثال.

وحقيقته: إبدال من يعرف برواية بغيره.

فيدخل فيه إبدال راو أو أكثر من راو حتى الإسناد كله.

وقد يقع ذلك عمدا إما بقصد الإغراب أو لقصد الامتحان.

وقد يقع وهما فأقسامه ثلاثة :

وهي كلها في الإسناد وقد يقع نظيرها في المتن، وقد يقع فيهما جميعا.

فممن كان يفعل ذلك عمدا لقصد الإغراب على سبيل الكذب: حماد بن عمرو النصيبي وهو من المذكورين بالوضع.

[ ص: 865 ] من ذلك روايته عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا لقيتم المشركين في طريق، فلا تبدؤوهم بالسلام ..." الحديث فإن هذا الحديث قال العقيلي : لا يعرف من حديث الأعمش وإنما يعرف من رواية سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه.

قلت: كذلك أخرجه مسلم وغيره.

فجعل حماد بن عمرو الأعمش موضع سهيل ليغرب به.

هذا في الإسناد.

وأما في المتن فكمن يعمد إلى نسخة مشهورة بإسناد واحد فيزيد فيها متنا أو متونا ليست فيها.

كنسخة معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - (وقد زاد فيها).

[ ص: 866 ] وكنسخة مالك ، عن نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما زاد فيها جماعة عدة أحاديث ليس منها.

منها القوي والسقيم، وقد ذكر جلها الدارقطني في غرائب مالك .

وممن كان يفعل ذلك لقصد الامتحان كان شعبة يفعله كثيرا لقصد اختبار حفظ الراوي، فإن أطاعه على القلب عرف أنه غير حافظ وإن خالفه عرف أنه ضابط.

وقد أنكر بعضهم على شعبة ذلك لما يترتب عليه من تغليط من يمتحنه. فقد يستمر على روايته لظنه أنه صواب، وقد يسمعه من لا خبرة له فيرويه ظنا منه أنه صواب، لكن مصلحته أكثر من مفسدته.

[اختبار ابن معين لأبي نعيم : ]

وممن فعل ذلك يحيى بن معين مع أبي نعيم الفضل بن دكين بحضرة أحمد بن حنبل .

وروى الخطيب من طريق أحمد بن منصور الرمادي قال: خرجت مع أحمد بن حنبل ويحيى بن معين إلى عبد الرزاق ، فلما عدنا إلى الكوفة ، قال يحيى بن معين لأحمد بن حنبل : أريد أن أمتحن أبا نعيم فنهاه أحمد ، فلم ينته، فأخذ ورقة فكتب فيها ثلاثين حديثا من حديث أبي نعيم ، [ ص: 867 ] وجعل على (رأس كل) عشرة أحاديث حديثا ليس من حديثه، ثم أتينا أبا نعيم فخرج إلينا فجلس على دكان حذاء بابه وأقعد أحمد عن يمينه ويحيى عن يساره وجلست أسفل، فقرأ عليه يحيى عشرة أحاديث وهو ساكت ثم الحادي عشر، فقال أبو نعيم : ليس هذا من حديثي فاضرب عليه، ثم قرأ العشرة الثانية وقرأ الحديث الثاني، فقال: هذا أيضا ليس من حديثي فاضرب عليه، ثم قرأ العشرة الثالثة وقرأ الحديث الثالث، فتغير أبو نعيم ، ثم قبض على ذراع أحمد فقال: أما هذا فورعه يمنعه عن هذا.

وأما هذا وأومأ إلي فأصغر من أن يعمل هذا ولكن هذا من عملك يا فاعل ثم أخرج رجله فرفس يحيى بن معين وقلبه عن الدكان وقام فدخل داره، فقال له أحمد : ألم أنهك؟ وأقل لك أنه ثبت؟

فقال له يحيى : هذه الرفسة أحب إلي من سفري.

ومن ذلك ما فعله أصحاب الحديث مع البخاري وقد أشار إليه المصنف مختصرا فأحببت إيراد القصة على وجهها، وقد رويناها في "مشايخ البخاري " لابن عدي وفي التاريخ للخطيب في غير موضع أخبرني بها الحافظ أبو الفضل بن الحسين رحمه الله قال: أخبرني محمد بن محمد قال: أنا أبو الفرج الحراني أنا أبو الفرج ابن الجوزي ح وأخبرني الحافظ أبو الفضل [ ص: 868 ] - أيضا - قال: أخبرني محمد بن إبراهيم أنا يوسف بن يعقوب الشيباني كتابة واللفظ له.

ح وقرأت على أحمد بن عمر اللؤلؤي عن الحافظ أبي الحجاج المزي قال: أنا الشناني قال: أنا أبو اليمن الكندي قال: أنا أبو منصور القراد قال: أنا الحافظ أبو بكر الخطيب ح وأنا غالب بن محمد النيسابوري بمكة إجازة عن أبي أحمد الطبري قال: إن علي بن الحسين كتب إليهم أنا الفضل بن سهل إجازة عن الخطيب حدثني محمد بن أبي الحسن الساحلي أنا أحمد بن الحسن الرازي قال سمعت أبا أحمد ابن عدي يقول: سمعت عدة مشايخ يحكون أن محمد بن إسماعيل البخاري قدم بغداد فسمع به أصحاب الحديث، فاجتمعوا وعمدوا إلى مائة حديث، فقلبوا متونها وأسانيدها وجعلوا متن هذا الإسناد لإسناد آخر وإسناد هذا المتن لمتن آخر ودفعوها إلى عشرة أنفس إلى كل رجل عشرة [ ص: 869 ] أحاديث وأمروهم إذا حضروا المجلس يلقون ذلك على البخاري ، وأخذوا الموعد للمجلس، فحضر المجلس جماعة أصحاب الحديث من الغرباء من أهل خرسان وغيرهم ومن البغداديين ، فلما اطمأن المجلس بأهله انتدب إليه رجل من العشرة فسأله عن حديث من تلك الأحاديث فقال البخاري : لا أعرفه، فسأله عن آخر فقال: لا أعرفه فما زال يلقي عليه واحدا بعد واحد حتى فرغ من عشرته والبخاري يقول لا أعرفه، فكان الفقهاء ممن حضر المجلس يلتفت بعضهم إلى بعض ويقولون: فهم الرجل.

ومن منهم غير ذلك يقضي على البخاري بالعجز والتقصير وقلة الحفظ، ثم انتدب إليه رجل آخر من العشرة، فسأله عن حديث من تلك الأحاديث المقلوبة، فقال البخاري : لا أعرفه. فسأله عن آخر فقال: لا أعرفه، (فسأله عن آخر فقال: لا أعرفه) فلم يزل يلقي عليه واحدا بعد واحد فلما فرغ من عشرته والبخاري يقول: لا أعرفه ثم انتدب إليه الثالث والرابع إلى تمام العشرة حتى فرغوا كلهم من الأحاديث المقلوبة والبخاري لا يزيدهم على لا أعرفه.

فلما علم البخاري أنهم قد فرغوا التفت إلى الأول منهم فقال: أما حديثك الأول فهو كذا وحديثك الثاني فهو كذا والثالث والرابع على الولاء حتى أتى على تمام العشرة، فرد كل متن إلى إسناده وكل إسناد إلى متنه وفعل بالآخرين مثل ذلك رد متون الأحاديث كلها إلى أسانيدها وأسانيدها إلى متونها فأقر الناس له بالحفظ وأذعنوا له بالفضل.

سمعت شيخنا غير مرة يقول: ما العجب من معرفة البخاري بالخطأ من الصواب في الأحاديث لاتساع معرفته.

[ ص: 870 ] وإنما يتعجب منه في هذا لكونه حفظ موالاة الأحاديث على الخطأ من مرة واحدة.

قلت: وممن كان معروفا بمعرفة ذلك يحيى بن معين ، قال العجلي : ما خلق الله أحدا كان أعرف بالحديث من يحيى أحد كان يؤتى بالأحاديث قد خلطت وقلبت فيقول: هذا كذا وهذا كذا كما قال. وممن امتحنه تلاميذه الحافظ الجليل أبو جعفر محمد بن عمرو العقيلي .

فقرأت في كتاب الصلة لمسلمة بن قاسم الأندلسي قال:

[ ص: 871 ] ووقع ذلك لمحمد بن عجلان روينا في المحدث الفاصل لأبي محمد الرامهرمزي قال حدثنا عبد الله بن القاسم بن نصر : ثنا خلف بن سالم حدثني يحيى بن سعيد القطان قال: قدمت الكوفة وبها ابن عجلان وبها ممن يطلب الحديث مليح بن الجراح أخو وكيع وحفص بن غياث ويوسف بن خالد السمتي ، فقلنا نأتي ابن عجلان ، فقال يوسف السمتي : هل نقلب عليه حديثه حتى ننظر فهمه قال: ففعلوا فما كان عن سعيد جعلوه عن أبيه وما كان عن أبيه جعلوه عن سعيد قال يحيى فقلت لهم: لا أستحل هذا، فدخلوا عليه فأعطوه الجزء فمر فيه فلما كان عند آخر الكتاب انتبه الشيخ، فقال: أعد فعرض عليه، فقال: ما كان عن أبي فهو عن سعيد وما كان عن سعيد فهو عن أبي ثم أقبل على يوسف فقال: إن كنت أردت شيني وعيبي، فسلبك الله الإسلام وقال لحفص ابتلاك الله في دينك ودنياك.

[ ص: 872 ] وقال لمليح : لا نفعك الله بعلمك.

قال يحيى : فمات مليح قبل أن ينتفع بعلمه، وابتلي حفص في بدنه بالفالج وفي دينه بالقضاء ولم يمت يوسف حتى اتهم بالزندقة.

وأما من وقع منه القلب على سبيل الوهم فجماعة يوجد بيان ما وقع لهم من ذلك في الكتب المصنفة في العلل.

وقد ذكر ابن الصلاح منه حديث جرير بن حازم ، عن ثابت عن أنس - رضي الله تعالى عنه - وهو من مقلوب الإسناد.

ووقع لجرير بن حازم هذا - أيضا - عن ثابت عن أنس - رضي الله عنه - حديث انقلب عليه متنه وهو ما ذكره الترمذي من طريقه عن ثابت [ ص: 873 ] عن أنس - رضي الله عنه - قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكلم بالحاجة إذا نزل عن المنبر . قال الترمذي : لا نعرفه إلا من حديث جرير وسألت محمدا عنه فقال: وهم جرير في هذا.

والصحيح ما روي عن ثابت عن أنس - رضي الله عنه - قال:

"أقيمت الصلاة فأخذ رجل بيد النبي - صلى الله عليه وسلم - فما \زال يكلمه حتى نعس بعض القوم" .

قال محمد : والحديث هو هذا وجرير بن حازم ربما يهم في الشيء.

تنبيه:

حديث حجاج بن أبي عثمان الذي ذكره المصنف أخرجه مسلم والنسائي من طريقه، وما حكاه عن إسحاق بن عيسى رواه الخطيب في الكفاية بسنده إليه، ورواه أيضا أبو داود في كتاب المراسيل.

عن أحمد بن صالح عن يحيى بن حسان عن حماد بن زيد به.

التالي السابق


الخدمات العلمية