الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وتدليس المتن ) ويأتي بيانه في حال كونه ( عمدا : محرم وجرح ) لمتعمده . وللتدليس معنيان من حيث اللغة والاصطلاح ، فمعناه في اللغة : كتمان العيب في مبيع أو غيره . ويقال : دالسه ، خادعه ، كأنه من الدلس وهو الظلمة ; لأنه إذا غطى عليه الأمر أظلمه عليه . وأما في الاصطلاح ، فقسمان : قسم مضر يمنع القبول . وقسم لا يضر ، فالمضر : هو تدليس المتن . وسماه المحدثون المدرج - بكسر الراء - اسم فاعل .

فالراوي للحديث إذا أدخل فيه شيئا من كلامه أولا أو آخرا أو وسطا على وجه [ ص: 287 ] يوهم أنه من جملة الحديث الذي رواه ، وفاعله عمدا مرتكب محرما مجروح عند العلماء لما فيه من الغش .

أما لو اتفق ذلك من غير قصد من صحابي أو غيره ، فلا يكون ذلك محرما . ومن أمثلة ذلك : حديث ابن مسعود رضي الله عنه في التشهد . قال في آخره { فإذا قلت هذا ، فإن شئت أن تقوم فقم ، وإن شئت أن تقعد فاقعد } وهو من كلامه ، لا من الحديث المرفوع . قال البيهقي والخطيب والنووي وغيرهم : وهذا من المدرج أخيرا ، ومثال : المدرج أولا ، ما رواه الخطيب بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه { أسبغوا الوضوء ، ويل للأعقاب من النار } فإن " أسبغوا الوضوء " من كلام أبي هريرة ، ومثال الوسط : ما رواه الدارقطني عن بسرة بنت صفوان رضي الله عنها قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول { من مس ذكره ، أو أنثييه أو رفغه ، فليتوضأ } قال : فذكر الأنثيين ، والرفغ مدرج ، إنما هو من قول عروة الراوي عن بسرة ، ومرجع ذلك إلى المحدثين ، ويعرف ذلك بأن يرد من طريق أخرى التصريح بأن ذلك من كلام الراوي ، وهو طريق ظني ، قد يقوى وقد يضعف ، وعلى كل حال حيث فعل ذلك المحدث عمدا ، بأن قصد إدراج كلامه في حديث النبي صلى الله عليه وسلم من غير تبيين ، بل دلس ذلك : كان فعله حراما ، ويصير مجروحا مردود الحديث ( و ) القسم الثاني ( غيره ) أي غير المضر الذي هو تدليس المتن ( مكروه مطلقا ) وله صور . إحداها : أن يسمي شيخه في روايته باسم له غير مشهور من كنية أو لقب أو اسم ونحوه ، كقول أبي بكر بن مجاهد المقرئ الإمام : حدثنا عبد الله بن أبي أوفى . يريد به عبد الله بن أبي داود السجستاني . وقوله أيضا : حدثنا محمد بن أسيد ، ويريد به النقاش المفسر - نسبة إلى جده - وهو كثير جدا ، ويسمى هذا تدليس الشيوخ .

وأما تدليس الإسناد : فهو أن يروي عمن لقيه أو عاصره حديثا لم يسمعه منه ، موهما سماعه منه ، قائلا : قال فلان أو عن فلان ونحوه .

وربما لم يسقط شيخه وأسقط غيره . قاله ابن الصلاح . ومثله غيره . كما في الترمذي [ ص: 288 ] عن ابن شهاب عن أبي سلمة عن عائشة رضي الله عنها مرفوعا { لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين } ثم قال : هذا حديث لا يصح ; لأن الزهري لم يسمعه من أبي سلمة ، ثم ذكر أن بينهما سليمان بن أرقم عن يحيى بن أبي كثير ، وأن هذا وجه الحديث ، قال ابن الصلاح : هذا القسم مكروه جدا ذمه العلماء . وكان شعبة من أشدهم ذما له ، وقال مرة : التدليس أخو الكذب ، ولأن أزني أحب إلي من أن أدلس . وهذا منه إفراط محمول على المبالغة في الزجر عنه . الصورة الثانية : أن يسمي شيخه باسم شيخ آخر لا يمكن أن يكون رواه عنه ، كما يقوله تلامذة الحافظ أبي عبد الله الذهبي : حدثنا أبو عبد الله الحافظ ، تشبيها بقول البيهقي فيما يرويه عن شيخه أبي عبد الله الحاكم : حدثنا أبو عبد الله الحافظ ، وهذا لا يقدح لظهور المقصود منه . الصورة الثالثة : أن يأتي في التحديث بلفظ يوهم أمرا لا قدح في إيهامه ، وذلك كقوله : حدثنا وراء النهر ، موهما أنه نهر جيحون ، وهو نهر عيسى ببغداد أو الحيرة ونحوها بمصر ، فلا قدح في ذلك ; لأنه من باب الإغراب ، وإن كان فيه إيهام الرحلة إلا أنه صدق في نفسه . إذا تقرر ذلك فأكثر العلماء على أن ذلك كله مكروه ، قال أحمد في رواية حرب والمروذي : لا يعجبني ، هو من أهل الريبة . ولا يغير اسم رجل ; لأنه لا يعرف . وسأله مهنا عن هشيم ؟ قال : ثقة إذا لم يدلس . قلت : في التدليس عيب ؟ قال : نعم ، قال الشيخ تقي الدين : والأشبه تحريمه ، لأنه أبلغ من تدليس المبيع ( ومن عرف به عن الضعفاء لم تقبل روايته حتى يبين السماع ) يعني أن من عرف بالتدليس في روايته عن الضعفاء موهما أن سماعه عن غيرهم : لم تقبل روايته حتى يبين ، بأن يفصح بتعيين الذي سمع منه ، عند المحدثين وغيرهم ، وقاله بعض أصحابنا وأبو الطيب وغيره من الشافعية ، وهو ظاهر المعنى ( ومن كثر منه ) التدليس ( لم تقبل عنعنته ) قاله المجد ، قال ابن مفلح : ويتوجه أن يحمل تشبيه ذلك بما سبق في الضبط من كثرة السهو وغلبته ، وما في البخاري ومسلم من ذلك محمول على أن السماع من طريق [ ص: 289 ] آخر ، ومن دلس متأولا قبل عند أحمد وأصحابه ، والأكثر من الفقهاء والمحدثين ولم يفسق ; لأنه قد صدر من الأعيان المقتدى بهم . وقل من سلم منه . وقد رد الإمام أحمد رضي الله عنه قول شعبة : التدليس كذب . قيل للإمام أحمد : كان شعبة يقول : إن التدليس كذب . فقال : لا ، قد دلس قوم . ونحن نروي عنهم ( والمعنعن بلا تدليس بأي لفظ كان متصل ) يعني : أن الإسناد المعنعن الذي لا يعلم فيه تدليس بأي لفظ كان متصل عند الإمام أحمد رضي الله تعالى عنه والأكثر من المحدثين وغيرهم ، عملا بالظاهر . والأصل عدم التدليس ، لكن شرط ابن عبد البر ثلاثة شروط : العدالة ، واللقاء ، وعدم التدليس . قال الإمام أحمد رضي الله عنه : ما رواه الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم . أو رواه الزهري عن سالم عن أبيه ، وداود عن الشعبي عن علقمة عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم : كل ذلك ثابت . وذكر جماعة : أن الإسناد المعنعن ليس بمتصل . قال ابن الصلاح : عده بعض الناس من قبيل المرسل والمنقطع ، حتى يتبين اتصاله بغيره . فيجعل مرسلا ، إن كان من قبيل الصحابي ، ومنقطعا إن كان من قبيل غيره . وقولنا " بأي لفظ كان " يشمل " عن وإن وقال " ونحوه على الصحيح . ونقل أبو داود عن أحمد : أن " إن فلانا " ليست للاتصال ، ولم يفرق القاضي وغيره من أصحابنا بين المدلس وغيره ، علم إمكان اللقاء أو لا . قال ابن مفلح : ولعله غير مراد ( ويكفي إمكان لقي ) دون العلم به ( في قول ) اختاره مسلم . وحكاه عن أهل العلم بالأخبار . قال ابن مفلح : وهو معنى ما ذكره أصحابنا فيما يرد به الخبر وما لا يرد . قال ابن رجب في آخر شرح الترمذي . وهو قول كثير من العلماء المتأخرين . وهو ظاهر كلام ابن حبان وغيره واشترط علي بن المديني والبخاري وغيرهما : العلم باللقي . قال ابن رجب في شرح الترمذي : هو قول جمهور المتقدمين ، وهو مقتضى كلام الإمام أحمد وأبي زرعة وأبي حاتم وغيرهم من أعيان الحفاظ ، بل كلامهم يدل على اشتراط ثبوت السماع ، فإنهم قالوا في جماعة من الأعيان ثبتت لهم الرؤية لبعض الصحابة . وقالوا مع ذلك : لم يثبت [ ص: 290 ] لهم السماع منهم . فرواياتهم عنهم مرسلة . منهم الأعمش ، ويحيى بن أبي كثير وأيوب وابن عون . وقرة بن خالد : رأوا أنسا ولم يسمعوا منه ، فرواياتهم عنه مرسلة . كذا قال أبو حاتم . وقاله أبو زرعة أيضا في يحيى بن أبي كثير . وقال الإمام أحمد في يحيى بن أبي كثير : قد رأى أنسا فلا أدري أسمع منه أم لا ؟ ولم يجعلوا روايته عنه متصلة بمجرد الرؤية ، والرؤية أبلغ من إمكان اللقي . وكذلك كثير من صبيان الصحابة رأوا النبي صلى الله عليه وسلم ولم يصح لهم سماع منه .

فرواياتهم عنه مرسلة . كطارق بن شهاب وغيره . وكذلك من علم منه أنه مع اللقاء لم يسمع ممن لقيه إلا شيئا يسيرا . فروايته زيادة على ذلك مرسلة . كروايات ابن المسيب عن عمر . فإن الأكثرين نفوا سماعه منه . وأثبت أحمد أنه رآه وسمع منه ، وقال مع ذلك : رواياته عنه مرسلة . إنما سمع منه شيئا يسيرا ، مثل نعيه النعمان بن مقرن على المنبر ونحو ذلك . وكذلك سماع الحسن من عثمان وهو على المنبر يأمر بقتل الكلاب وذبح الحمام ، ورواياته عنه غير ذلك مرسلة . وقال أحمد : ابن جريج لم يسمع من طاوس ولا حرفا . ويقول : رأيت طاوسا . وقال أبو حاتم الرازي أيضا : الزهري لا يصح سماعه من ابن عمر ، رآه ولم يسمع منه ورأى عبد الله بن جعفر ولم يسمع منه . وأثبت أيضا دخول مكحول على واثلة بن الأسقع ورؤيته له ومشافهته ، وأنكر سماعه منه . وقال : لم يصح له منه سماع ، وجعل رواياته عنه مرسلة . وقال أحمد : أبان بن عثمان لم يسمع من أبيه ، من أين سمع منه ؟ ومراده : من أين صحت روايته بسماعه منه ، وإلا فإمكان ذلك واحتماله غير مستبعد . وقال أبو زرعة في أبي أمامة بن سهل بن حنيف : لم يسمع من عمر ، هذا مع أن أبا أمامة رأى النبي صلى الله عليه وسلم . فدل كلام الإمام أحمد رضي الله عنه وأبي زرعة وأبي حاتم على أن الاتصال لا يثبت إلا بثبوت التصريح بالسماع . وهذا أضيق من قول ابن المديني والبخاري ، فإن المحكي عنهما : أنه يعتبر أحد أمرين : إما السماع ، وإما اللقاء . والإمام أحمد ومن تبعه عندهم : لا بد من ثبوت السماع ، [ ص: 291 ] ويدل على أن هذا مرادهم : أن أحمد قال : ابن سيرين لم يجئ عنه سماع من ابن عباس . وقال أبو حاتم : الزهري أدرك أبان بن عياش ومن هو أكبر منه ، ولكن لا يثبت له السماع ، كما أن حبيب بن أبي ثابت لا يثبت له السماع من عروة ، وقد سمع ممن هو أكبر منه ، غير أن أهل الحديث قد اتفقوا على ذلك واتفاقهم على شيء يكون حجة ، واعتبار السماع لاتصال الحديث هو الذي ذكره ابن عبد البر ، وحكاه عن العلماء ، وقوة كلامه تشعر بأنه إجماع منهم ( وظاهره ) أي وظاهر قول من قال : إنه يكفي إمكان اللقاء ( لو روى ) ثقة ( عمن ) أي عن إنسان ( لم يعرف بصحبته ، و ) ولا ب ( روايته عنه يقبل مطلقا ) سواء أقر به أصحاب الشيخ الذي روى عنه أو أنكروه ; لأنه ثقة . وقاله الحنفية وابن برهان ، ولم يقبله الشافعية . وكلام الإمام أحمد رضي الله عنه في ذلك مختلف . قال المجد في المسودة : إذا روى رجل خبرا عن شيخ مشهور لم يعرف بصحبته ولم يشتهر بالرواية عنه ، وأجمع أصحاب الشيخ المعروفون على جهالته بينهم ، وأنه ليس منهم : هل يمنع ذلك قبول خبره ؟ قالت الشافعية : يمنع ، وقالت الحنفية : لا يمنع ، ونصره ابن برهان . والأول : ظاهر كلام الإمام أحمد في مواضع ، وأكثر المحدثين . والثاني : يدل على كلام الإمام أحمد في اعتذاره لجابر الجعفي في قصة هشام بن عروة مع زوجته . وقد قال ابن عقيل : المحققون من العلماء يمنعون رد الخبر بالاستدلال ، كرد خبر القهقهة استدلالا بفضل الصحابة رضي الله عنهم المانع من الضحك . وردت عائشة رضي الله عنها قول ابن عباس في الرؤية ، وقول بعضهم إن قوله { لأزيدن على السبعين } بعيد الصحة ; لأن السنة تأتي بالعجائب . ولو شهدت بينة على معروف بالخبر بإتلاف أو غضب لم ترد بالاستبعاد . هذا معنى كلام أصحابنا وغيرهم في رده بما يحيله العقل ( ولا يشترط في قبول خبر أن لا ينكر ) يعني أنه لو روى ثقة خبرا فأنكره غيره لم يمنع ذلك من قبوله عندنا . وأومأ إليه الإمام أحمد خلافا للحنفية ، ذكره القاضي في الخلاف في خبر فاطمة بنت قيس ورد عمر له . وكذا قال ابن عقيل : جواب [ ص: 292 ] من قال رده السلف : أن الثقة لا يرد حديثه لإنكار غيره ; لأن معه زيادة .

التالي السابق


الخدمات العلمية