الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                            صفحة جزء
                                                            باب تحريم الخمر والنبيذ عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من شرب الخمر في الدنيا ثم لم يتب منها حرمها في الآخرة وفي رواية لمسلم فمات وهو يدمنها ثم لم يتب : .

                                                            التالي السابق


                                                            باب تحريم الخمر والنبيذ . الحديث الأول عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من شرب الخمر في الدنيا . [ ص: 38 ] ثم لم يتب منها حرمها في الآخرة (فيه) فوائد : .

                                                            (الأولى) : اتفق عليه الشيخان والنسائي من طريق مالك .

                                                            وأخرجه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي من طريق أيوب السختياني بلفظ من شرب الخمر في الدنيا فمات وهو يدمنها لم يشربها في الآخرة : وأخرجه مسلم وابن ماجه من طريق عبيد الله بن عمر ومسلم وحده من طريق موسى بن عقبة بلفظ إلا أن يتوب أربعتهم عن نافع عن ابن عمر وقال الترمذي ورواه مالك عن نافع عن ابن عمر موقوفا ولم يرفعه .

                                                            (قلت) : وهو مردود بالنسبة إلى هذه الجملة التي أوردها المصنف فإنها في الموطإ مرفوعة ولم يذكر ابن عبد البر في ذلك خلافا وكذا هو في صحيح البخاري عن عبد الله بن يوسف وفي صحيح مسلم عن يحيى بن يحيى كلاهما عن مالك وفي رواية القعنبي عند مسلم قيل لمالك رفعه ؟ قال : نعم وكأن الترمذي إنما أراد الجملة الأولى التي في روايته وهي قوله كل مسكر خمر وكل مسكر حرام : فهذه رواها مالك موقوفة على ابن عمر وكذا رواها النسائي من طريقه وهي مرفوعة من طريق غير مالك وروي رفعها عن مالك أيضا والله أعلم .

                                                            (الثانية) : اختلف الناس في معنى هذا الحديث فقال الخطابي معناه لم يدخل الجنة ؛ لأن شراب أهل الجنة خمر إلا أنه لا غول فيه ولا نزف .

                                                            وقال ابن عبد البر هذا وعيد شديد يدل على حرمان دخول الجنة ؛ لأن الله عز وجل أخبر أن الجنة فيها أنهار من خمر لذة للشاربين لا يصدعون عنها ولا ينزفون فمن حرم الخمر في الجنة مع دخولها إن لم يعلم أن فيها خمرا وأنه حرمها عقوبة فليس فيه وعيد ؛ لأنه لم يجد ألم فقدها وإن علم بها وبأنه حرمها عقوبة لحقه حزن وهم وغم والجنة لا حزن فيها ولا غم قال الله تعالى لا يمسهم فيها نصب وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن وقال وفيها ما تشتهيه الأنفس ولهذا قال بعض من تقدم أنه لا يدخل . [ ص: 39 ] الجنة وهو مذهب غير مرضي ومحمله عندنا أنه لا يدخل الجنة ولا يشربها إلا أن يغفر له فيدخل الجنة ويشربها كسائر الكبائر وهو في مشيئة الله عز وجل إن شاء غفر له وإن شاء عذبه بذنبه فإن عذبه بذنبه ثم أدخله الجنة برحمته لم يحرمها إن شاء الله تعالى فإن غفر له فهو أحرى أن لا يحرمها وعلى هذا التأويل يكون معناه جزاؤه وعقوبته أن يحرمها في الآخرة ثم قال وجائز أن يدخل الجنة إذا غفر الله له فلا يشرب فيها خمرا ولا يذكرها ولا يراها ولا تشتهيها نفسه ، ثم روى ابن عبد البر بإسناده عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة ، وإن دخل الجنة لبسه أهل الجنة ولم يلبسه هو : ثم ذكر أنه روي موقوفا على أبي سعيد ثم قال وروي عن ابن الزبير أنه قال من لم يلبسه في الآخرة لم يدخل الجنة ؛ لأن الله عز وجل قال في كتابه ولباسهم فيها حرير قال وهذا عندي على نحو المعنى الذي نزعنا إليه في شرب الخمر انتهى .

                                                            وقال القاضي عياض قوله حرمها في الآخرة أي إن عاقبه الله وأنفذ عليه وعيده وأنه بعد العفو عنه أو المعاقبة يحرم شربها في الجنة قال بعض العلماء ينساها وقال غيره يحتمل أن لا يشتهيها وقيل بل دليله أنه يحرم الجنة جملة ؛ لأنه مع العلم حزن ومع عدمه لا عقوبة فيه ؛ قال ومعنى هذا عند القائل به أن يحبس عن الجنة ويحرمها مدة كما جاء في غير حديث في العقاب لم يرح رائحة الجنة : ولم يدخل الجنة : فيكون عقابه منعه من الالتذاذ تلك المدة ويكون من أصحاب الأعراف وأهل البرزخ وأما أن يحرم الجنة بالكلية فليس مذهب أهل السنة في أصحاب الذنوب ويقول الأولون ليس عليه في ذلك حسرة ولا يكون تنسيته إياها أو ترك شهوتها عقوبة وإنما هو نقص نعيم عمن تم نعيمه كما اختلفت درجاتهم ومنازلهم فيها دون بعض ولا غم على أحد منهم انتهى .

                                                            وقال القاضي أبو بكر بن العربي ظاهر الحديث ومذهب نفر من الصحابة ومن أهل السنة أنه لا يشرب الخمر في الجنة وكذلك لو لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الجنة وذلك ؛ لأنه استعجل ما أمر بتأخيره ووعد به ، فحرمه عند ميقاته كالوارث إذا قتل مورثه فإنه يحرم ميراثه ؛ لأنه استعجل به وهو موضع احتمال .

                                                            [ ص: 40 ] وموقف إشكال وردت فيه الأخبار فالله أعلم كيف يكون الحال وعندي أن الأمر كذلك إياه أعتقد وبه أشهد ، وقال النووي : معناه أنه يحرم شربها في الجنة وإن دخلها قيل ينساها وقيل لا يشتهيها وإن ذكرها ويكون هذا نقص نعيم في حقه تمييزا بينه وبين تارك شهوتها .

                                                            وقال أبو العباس القرطبي ظاهره تأبيد التحريم وإن دخل الجنة ومع ذلك فلا يتألم لحاله مع المنازل التي رفع بها غيره عليه مع علمه برفعتها وأن صاحبها أعلى منه درجة ومع ذلك فلا يحسده ولا يتألم بفقد شيء استغناء بالذي أعطي وغبطة به وقال بهذا جماعة من العلماء وهو الأولى ثم قال وقيل معنى الحديث أن حرمانه الخمر إنما هو في الوقت الذي يعذب في النار ويسقى من طينة الخبال فإذا خرج من النار أدخل الجنة ولم يحرم شيئا منها لا خمرا ولا حريرا ولا غيرهما فإن حرمان شيء من لذات الجنة لمن هو فيها نوع عقوبة ومؤاخذة فيها والجنة ليست بدار عقوبة ولا مؤاخذة فيها بوجه من الوجوه انتهى .

                                                            وجوز والدي رحمه الله في شرح الترمذي تأويل الحديث على فاعل ذلك مستحلا له كما في الحديث الصحيح ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الخمر : وحاصل ذلك أقوال :

                                                            (أحدها) : أن معناه أنه لا يدخل الجنة لتلازم حرمانها وعدم دخول الجنة وذلك في المستحل أو لا يدخلها مع الأولين .

                                                            (الثاني) أن معناه حرمانها حالة كونه في النار ويصدق على تلك ؛ لأنه في الآخرة فإنه لم يقل حرمها في الجنة .

                                                            (الثالث) : أن معناه حرمانها في الجنة وأن ذلك جزاؤه إن جوزي لا يجازى .

                                                            (الرابع) : أن معناه حرمانها في الجنة ولا امتناع من مجازاته بذلك فإنه ليس فيه عقوبة وإنما فيه نقص لذة .



                                                            (الثالثة) : فيه أن التوبة تكفر المعاصي الكبائر وهو مجمع عليه لكن هل تكفيرها قطعي أو ظني أما في التوبة من الكفر فهو قطعي وأما في غيره من الكبائر فللمتكلمين من أهل السنة فيه خلاف قال النووي والأقوى أنه ظني وذهب المعتزلة إلى وجوب قبول التوبة عقلا على طريقتهم في تحكيمهم العقل وقال أبو العباس القرطبي والذي أقوله أن من استقرأ الشريعة قرآنا وسنة وتتبع ما فيهما من هذا المعنى علم على القطع واليقين أن الله تعالى يقبل توبة الصادقين .



                                                            (الرابعة) : أشار بقوله ثم لم يتب إلى تراخي .

                                                            [ ص: 41 ] مرتبة فقد التوبة واستمرار الإصرار في المفسدة على نفس الشرب ؛ لأن الإصرار وفقد التوبة هو الذي ترتب عليه الوعيد فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له كما جاء في الحديث والمراد التوبة المعتبرة بشروطها المعروفة الواقعة قبل المعاينة والغرغرة وقد حكي عن جماعة من المفسرين في قوله تعالى ثم يتوبون من قريب أن ما دون الموت فهو قريب .

                                                            قال ابن عبد البر وهذا إجماع في تأويل هذه الآية وأما قوله في الرواية الأخرى فمات ، وهو يدمنها فقال الخطابي مدمن الخمر هو الذي يتخذها ويعاصرها قال وقال النضر بن شميل من شرب الخمر إذا وجدها فهو مدمن الخمر وإن لم يتخذها .

                                                            (الخامسة) : قوله (ثم لم يتب منها) : أي من شربها فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه وقد يستدل به على صحة التوبة من بعض الذنوب مع بقائه على ذنب آخر وهو كذلك .



                                                            (السادسة) هذا الوعيد إنما ورد في شارب الخمر وهي عند أكثر أصحابنا اسم لعصير العنب الذي اشتد وقذف بالزند أما سائر الأشربة المسكرة فهي وإن شاركتها في التحريم لا تشاركها في اسم الخمر حقيقة كما حكاه الرافعي والنووي عن الأكثرين وإنما تسمى بذلك مجازا ومن أصحابنا من قال إن اسم الخمر يتناولها حقيقة وهو ظاهر قوله عليه الصلاة والسلام كل مسكر خمر : فاندراج شاربها في هذا الوعيد مبني على هذا الخلاف فعلى قول الأكثرين لا يتناوله إلا إن فرعنا على قول من يذهب إلى حمل اللفظ الواحد على حقيقته ومجازه فيدخل حينئذ في الحديث من شرب ما يسمى خمرا حقيقة ومن شرب ما يسمى خمرا مجازا والله أعلم .



                                                            (السابعة) : إنما تناول الحديث شاربها في حالة التكليف اختيارا فأما الصبي والمجنون والمكره فلا يدخلون في هذا الوعيد وقد دل على ذلك قوله ثم لم يتب منها ؛ لأن التوبة إنما تكون من ذنب وهؤلاء لا ذنب عليهم بما صدر منهم وقد ورد ترتب هذا الوعيد على ساقيها للصغير : ففي سنن أبي داود عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم ومن سقاه صغيرا لا يعرف حلاله من حرامه كان حقا على الله أن يسقيه من طينة الخبال .



                                                            (الثامنة) : يترتب هذا الوعيد على مجرد شرب الخمر وإن لم يسكر بذلك عملا بمقتضى الحديث وقد أجمع المسلمون على تحريم ما كان منها من عصير العنب .

                                                            [ ص: 42 ] بمجرد الشرب وإن قل وإنما اختلفوا في غيرها فمذهبنا ومذهب الأكثرين أن حكمها كذلك وقال الحنفية إنما يحرم من غيرها القدر المسكر دون ما لم يصل به إلى السكر .




                                                            الخدمات العلمية