الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          (موضوعات السورة )

                                                          وبمقدار ما في السورة من طول ، كان فيها القدر الأكبر من الموضوعات ، فهو طول في كثرة الآيات ، وليس طولا مما يمجه علماء البلاغة ، فهو كثرة موضوعات وليس بطول ممل ، وها نحن أولاء نشير إلى موضوعاتها قبل الخوض في تفسيرها . ابتدئت السورة الكريمة بذكر شأن الكتاب الكريم ، وشرف الذين يؤمنون به ، وأنهم الذين يؤمنون بالغيب .

                                                          ثم ذكر القسم المقابل لأهل الإيمان وهم الكافرون الذين لا تجدي فيهم الآيات والنذر سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ، وأنهم صم بكم لا يعقلون .

                                                          ثم ذكر سبحانه وتعالى أمر الحائرين الذين يترددون بين الإيمان والكفر ، وهو يحيط بهم ، وهم المنافقون الذين يحسبون أنفسهم أنهم المصلحون في الأرض ، وهم المفسدون .

                                                          [ ص: 77 ] وضرب الله سبحانه وتعالى الأمثال التي تصور حالهم وتبين أمرهم ، وبين سبحانه وتعالى أن النفاق مرض القلوب ومرض الجماعات ، ثم ذكر سبحانه وتعالى أن الناس جميعا في قبضته وأنهم خلقه سبحانه وتعالى هم ومن كان قبلهم ، وأنه مكن لهم في الأرض وجعلها لهم فراشا ، وأن ذلك التمكين والخلق والتكوين يوجب عليهم عبادة الله تعالى وحده ، وألا يتخذوا الأوثان . ثم بين لهم مقام الحجة النبوية التي جاءت معجزة للنبي - صلى الله عليه وسلم - تثبت لهم رسالته ، وتحداهم أن يأتوا بسورة من مثله ، وأن يأتوا بشهداء لهم ليثبت عليهم التحدي والعجز بشاهد من أهلهم ، ودعاهم إلى أن يتقوا نارا وقودها الناس والحجارة .

                                                          وقد تكلم سبحانه وتعالى في الخلق والتكوين من البعوضة إلى الإنسان ، وذكر أن خلق البعوضة عظيم ، حتى أن الله تعالى لا يستحيي من الحكم في الخلق أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها ، وأن المؤمن يدرك ويعتبر ، ويعلم أنه الحق من ربه ، وأما الذين كفروا فيتشككون ويضلون ، ويزيد ضلالهم ، وينقضون ما أمر الله به أن يوثق ، وبين سبحانه وتعالى أعلى درجات الخلق ، وهو خلق الإنسان والجن وجعل الإنسان خليفة في الأرض ، وبين أنه خلق فيه العقل والاستعداد لعلم الكائنات ، وبين سبحانه زيادة خلقه عن الجن وعن الملائكة ، وأمر الملائكة والجن أن يسجدوا له فأبى إبليس وجهل وقال : أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ، واعترض على الله تعالى خالق النار وخالق الطين ، ثم كان الاختبار الإلهي لأبي الإنسان ، وهو آدم ، فنهاه هو وزوجه عن الأكل من شجرة ، فوسوس لهما الشيطان إبليس ، فأكلا منها ، فأخرجهما الله تعالى مما كانا فيه ونزلا إلى الأرض ، وبينهما وبين إبليس من العداوة الشديدة ، والمغالبة بين الخير والشر .

                                                          ولقد أشار سبحانه إلى المعركة الدائمة ، وذكر أوضح مثل لها بما كان يفعله بنو إسرائيل ، لقد أوتوا علم النبوة بما أرسل الله فيهم من رسل ، وأوتوا نعما كثيرة تثبت قدرة الله تعالى بما أنعم ، ولكنهم ضلوا ، وذكر سبحانه ما أمرهم به وما نهاهم عنه .

                                                          وبين أنهم كانوا في علم الدين أكثر من غيرهم ، ولكنهم كانوا يأمرون الناس بالبر ، [ ص: 78 ] ولا يبرون ، ولقد أخذ سبحانه وتعالى يذكرهم بنعمه عليهم ، وذكرهم بحالهم من فرعون إذ نجاهم منه ، وكان يسومهم سوء العذاب ، يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم ، وذكرهم إذ فرق بهم البحر ، وآياته الكبرى فيهم ، وذكرهم إذ قابلوا هذه النعم بالشرك إذ اتخذوا العجل ، وذكرهم بعفوه سبحانه وتعالى عنهم ، وذكرهم بأنه طالبهم بعد هذا العفو أن يقتلوا دواعي الشهوات في أنفسهم ، لتكون قوة في هذا الوجود ، فلا وجود لجماعة غلبت عليها شهوتها ، وذكرهم بنعمته عليهم في أن أتى لهم بالمن والسلوى ليأكلوا منها رغدا ، وذكرهم بأنه أمرهم بدخول قرية لهم متطامنين متواضعين ، فإن مع التواضع مغفرة الله ، ولكنهم بدلوا بالطاعة الظلم ، فعاقبهم الله تعالى في الدنيا .

                                                          وذكر لهم آياته سبحانه في أن أمدهم بالماء في وسط الجدب ، بأن ضرب لهم موسى الحجر بعصاه ، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا ، وبين أن شهواتهم ، قد تحكمت فيهم فطلبوا ما كانوا يأكلون في مصر من الفوم والعدس والبصل بدلا من المن والسلوى ، واستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير ، وأنهم إذ تحكمت فيهم شهوتهم ضربت عليهم الذلة ، فكانوا أذلة ; لأنه حيثما كانت الشهوة المستحكمة كانت الذلة ، ثم بين سبحانه أنه أخذ عليهم الميثاق وأكده برفع الجبل عليهم ، فأعطوه - أي الميثاق - ، ولكنهم نقضوه وجاء من بعد ذلك أمر موسى - عليه السلام - لبني إسرائيل أن يذبحوا بقرة ، وقد كانت مقدسة في مصر فسرت عدوى ذلك إليهم ، فتلكئوا في الأمر فسألوا عنها : أكبيرة أم صغيرة ؟ ، وما لونها ؟ ، ثم سألوه : أهي عاملة أم غير عاملة ؟ فقال : إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث مسلمة لا شية فيها ، فذبحوها وما كادوا يفعلون ، ثم ذكر في السورة قصة القتيل الذي ادعى كل فريق أنه لم يقتله ، فأمرهم أن يضربوه ببعضها ، فظهر القاتل ، وأمر الله تعالى بالقصاص منه .

                                                          والله سبحانه وتعالى بعد أن ذكر هذه الأحوال لهم بين أنه (لا يطمع في إيمانهم ) ، وقد استولى النفاق عليهم ، فإذا لقوا المؤمنين قالوا : آمنا ، وإذا خلا بعضهم [ ص: 79 ] إلى بعض قالوا جاهلين : أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم ؟ ! كأن الله تعالى لا يعلم ، ولقد ركبهم الغرور في أنفسهم ، فقالوا : لن تمسنا النار إلا أياما معدودات ، فبين الله أن الخطايا تركبهم ، وسيؤخذون بها ، ولقد أخذ الله تعالى عليهم الميثاق بألا يعبدوا إلا الله ويقيموا الصلاة ، وأخذ عليهم الميثاق بألا يسفكوا دماءهم وألا يقتل بعضهم بعضا ، ومع ذلك أخرجوا بعضهم من ديارهم ، ولا يفكون أسراكم إلا بفدية ، ويؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض ، ويحكم عليهم سبحانه ، بالحكم الخالد لكل من اتبع الشهوات بأنه اشترى الحياة الدنيا بالآخرة ، وبعد ذلك ذكر الله تعالى سلسلة الرسالة الإلهية التي ابتدئت بموسى ، ثم عيسى ، وأنهم كفروا بالأنبياء ، فكلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم كفروا به أو قتلوه ، ولما جاءهم القرآن مصدقا لما بين يديه كذبوه ، وهم عندهم العلم به .

                                                          ويعيب الله تعالى عليهم قتلهم الأنبياء ، ولا يمكن أن يكون ذلك إلا بغير الحق .

                                                          ولقد ذكر سبحانه وتعالى أنه قد جاءهم موسى بالبينات وأنقذهم من فرعون ، ومع ذلك بفقدهم التفكير المستقل المدرك عبدوا العجل ، كما كان يعبده فرعون وملؤه ، ولقد ذكر الله سبحانه وتعالى أخذ الميثاق ، لبيان أنهم لا يرعون ذمة ، ولا يقومون بخير ، ولقد كانوا يحسبون أنهم أبناء الله وأحباؤه ، وأن الدار الآخرة خالصة لهم من دون الناس فتحداهم الله تعالى بأن يتمنوا الموت ولن يتمنوه ; لأن عبد الشهوة يتعلق بالدنيا وما فيها ، يعبد الشهوة العاجلة ، ولا يرجو الآجلة ، وذكر سبحانه عداوتهم لجبريل مما يدل على صغر تفكيرهم .

                                                          ويبين أنهم كلما جاءهم رسول كذبوه ، وكلما عاهدوا عهدا نقضوه ، ونبذوه وأنهم بدل أن يتبعوه اتبعوا السحر والأهواء ، واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا ، واتبعوا السحرة ، وعلموا الناس السحر ، وتعلموا منه ما يفرقون به بين المرء وزوجه ، ولقد بين سبحانه جملة حالهم ، وما يبغون فقال تعالى : ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن [ ص: 80 ] ينزل عليكم من خير من ربكم والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم .

                                                          ولقد كان المشركون يعيبون على النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لم يأت بمعجزة حسية ، وأنه يأتي بالمعجزة المعنوية ، وهي القرآن ، فبين الله تعالى أنه إن ترك معجزة يأت بخير منها أو مثلها ، وأن قوم موسى - عليه السلام - قد سألوا أن يروا الله جهرة .

                                                          ولقد بين الله سبحانه وتعالى أن كثيرين من أهل الكتاب يريدون أن يردوا المؤمنين عن دينهم حسدا لهم على ما آتاهم من فضل يعلمونه ويجحدونه ; ولذا أمر الله المؤمنين أن يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ، وأعلمهم أن ما يقدمونه من خير يأت الله تعالى به ويجدوه عنده ، ثم ذكر سبحانه وتعالى مزاعم النصارى واليهود ، وتكفير بعضهم لبعض ، وذلك شأن الذين لا يعلمون . ثم بين سبحانه وتعالى ظلم الذين يمنعون مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وهم المشركون واليهود والنصارى .

                                                          ثم بين سبحانه وتعالى كفر الذين قالوا : إن الله تعالى اتخذ ولدا سبحانه ، وضلال الذين يطلبون أن يكلمهم الله تعالى .

                                                          ولقد ذكر سبحانه وتعالى مقام الرسالة المحمدية ، وأنه - صلى الله عليه وسلم - إن طلب رضا اليهود ، فلن يرضوا عنه ، وذكر سبحانه بعد ذلك نعمه على بني إسرائيل .

                                                          ولقد ذكر سبحانه وتعالى بعد ذلك خبر أبي الأنبياء إبراهيم عليه الصلاة والسلام فهو أب لموسى وعيسى ومحمد صلوات الله تعالى عليهم ، وذكرهم بهذا أن أصلهم - وهو إبراهيم - واحد ، وأنه ما كان لهم أن يختلفوا .

                                                          ثم ذكر بناء إبراهيم عليه السلام للكعبة ، ومعاونة ولده إسماعيل له ، ودعاءهما لرب البرية أن يجعلهما مسلمين له ومن ذريتهما أمة مسلمة له ، وأن يتعلما مناسك الحج ، ودعاء إبراهيم عليه السلام أن يبعث في العرب رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ، وذلك الرسول هو محمد - صلى الله عليه وسلم - ، فهو دعوة أبي الأنبياء إبراهيم ، وأن ملة إبراهيم هي ملة الأنبياء أجمعين ، ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ، ولقد وصى بهذه الملة الطاهرة إبراهيم ، ووصى بها يعقوب .

                                                          [ ص: 81 ] وإنه لا يجوز التفرق في دين الله بين اليهود والنصارى وأتباع محمد ، ولقد جاء محمد - صلى الله عليه وسلم - بهذه الوحدة الدينية ، لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون . وإنه بهذه الوحدة الدينية التي تقوم على التوحيد ، قد اتجه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى بيت المقدس ; لأن البيت الحرام الذي به الحج كانت الأوثان تحوطه ، فلما آذن الله تعالى بأن دولة الأوثان ذاهبة بعد الانتصار في غزوة بدر الكبرى حول الله تعالى قبلة المسلمين إلى الكعبة إيذانا بتخليصها من الشرك وأهله .

                                                          فأخذ السفهاء من اليهود يثيرون الشكوك حول ذلك التحويل : ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ؟ ! وقد رد الله تعالى عليهم ، وبين أن ذلك أمر قدره ، وأن وسطية الأمة الإسلامية ، وعلوها اقتضى الاتجاه إلى ما بناه أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام ، وبين سبحانه أن تغيير القبلة بجعلها لبيت المقدس أولا ، ثم تحويلها ثانيا للكعبة إنما هو اختبار للإيمان والتسليم ، وفصل الله تعالى من بعد ذلك كيف يولون وجوههم شطر المسجد الحرام أينما كانوا .

                                                          ثم ذكرهم بنعمة الله تعالى عليهم ، وأشار إلى أنهم سيجدون أياما غلاظا شدادا : ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين .

                                                          * * *

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية