الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          [ ص: 157 ]

                                                          تنبيهات :

                                                          ( الأول ) : إن ما ذكرناه من المختلف فيه والمتفق عليه وما يشبهه لا يجوز أن يتعمد الوقف عليه لكونه غير تام ، ولا كاف ، ولا حسن ، ولا يجوز أن يتعمد الوقف إلا على ما كان بهذه الصفة وما خرج عن ذلك كان قبيحا كما قدمنا في باب الوقف والابتداء ، وإنما القصد بتعريف الوقف هنا على سبيل الاضطرار والاختيار .

                                                          وهذا معنى قول الداني رحمه الله في باب الوقف على مرسوم الخط من جامع البيان . وإنما نذكر الوقف على مثل هذا على وجه التعريف بمذاهب الأئمة فيه عند انقطاع النفس عنده لخبر ورد عنهم ، أو لقياس يوجبه قولهم لا على سبيل الإلزام والاختيار إذ ليس الوقف على ذلك ، ولا على جميع ما قدمناه في هذا الباب تام ، ولا كاف ، وإنما هو وقف ضرورة وامتحان وتعريف لا غير انتهى .

                                                          ( الثاني ) : ليس معنى قول صاحب المبهج ، وغيره عن أبي عمرو والكسائي ، أنهما يقفان على ( ما ) من ( مال ) في المواضع الأربعة ويبتدئان باللام متصلة بما بعدها من الأسماء ، وعن الباقين أنهم يقفون على ( مال ) باللام ويبتدئون بالأسماء المجرورة منفصلة من الجار أن يتعمد الوقف عليها ويبتدأ بما بعدها كسائر الأوقاف الاختيارية ، بل المعنى أن الابتداء يكون في هذه الكلمات عند من ذكر على هذا الوجه أي فلو ابتدأت ذلك ابتدأته على هذا الوجه عند هؤلاء فكما أن الوقف في ذلك على وجه الاضطرار والاختيار كذلك الابتداء يكون على هذا الوجه لهذا الكتاب لا أنه يجوز الوقف على ما ثم يبتدئ لهذا الكتاب ، أو يجوز الوقف على مال ثم يبتدئ هذا الرسول كما يوقف على سائر الأوقاف التامة ، أو الكافية ، هذا مما لا يجيزه أحد ، وكذلك القول في ويكأن و ويكأنه ، وفي سائر ما ذكر من هذا الباب إذا وجد فيه قول بعض أصحابنا يوقف على كذا ويبتدأ بكذا إنما معناه ما ذكرنا والله تعالى أعلم .

                                                          [ ص: 158 ]

                                                          ( الثالث ) : قد تكون الكلمتان منفصلتين على قراءة متصلتين على قراءة أخرى ، وذلك نحو أو أمن أهل القرى في الأعراف ( و : أوآباؤنا ) في الصافات والواقعة فإنهما على قراءة من سكن الواو منفصلتان إذ " أو " فيهما كلمة مستقلة حرف عطف ثنائية كما هي في قولك ضربت زيدا ، أو عمرا فوجب فصلها لذلك ، وعلى قراءة من فتح الواو متصلتان فإن الهمزة فيهما همزة الاستفهام دخلت على واو العطف كما دخلت على الفاء في أفأمن أهل ، وعلى الواو في أولم يهد ، أوكلما عاهدوا فالهمزة والواو على قراءة السكون كلمة واحدة ، وعلى قراءة الفتح كلمتان ، ولكنهما اتصلتا لكون كل منهما على حرف واحد - والله أعلم - .

                                                          ( الرابع ) إذا اختلفت المصاحف في رسم حرف فينبغي أن تتبع في تلك المصاحف مذاهب أئمة أمصار تلك المصاحف فينبغي إذ كان مكتوبا مثلا في مصاحف المدينة أن يجري ذلك في قراءة نافع وأبي جعفر ، وإذا كان في المصحف المكي فقراءة ابن كثير ، والمصحف الشامي فقراءة ابن عامر ، والبصري فقراءة أبي عمرو ويعقوب ، والكوفي فقراءة الكوفيين ، هذا هو الأليق بمذاهبهم والأصوب بأصولهم - والله أعلم - .

                                                          ( الخامس ) قول أئمة القراءة إن الوقف على اتباع الرسم يكون باعتبار الأواخر من حذف وإثبات ، وغيره إنما يعنون بذلك الحذف المحقق لا المقدر مما حذف تخفيفا لاجتماع المثلين ، أو نحو ذلك أجمعوا على الوقف على نحو ماء و دعاء و ملجأ بالألف بعد الهمزة ، وكذلك على الوقف على تراء ورأى ونحوه مما حذفت منه الياء ، وكذا الوقف على نحو يحيى و يستحيي بالياء ، وكذلك يريدون الإثبات المحقق لا المقدر فيوقف على نحو وإيتاء ذا القربى على الهمزة ، وكذا على نحو قال الملأ لا على الياء والواو إذ الياء والواو في ذلك صورة الهمزة كما قدمنا .

                                                          ومن وقف على اتباع الرسم في ذلك وكان من مذهبه تخفيف الهمز وقفا يقف بالروم بالياء وبالواو على اتباع الرسم كما تقدم النص عليه في بابه ولهذا لو وقفوا على نحو : ولؤلؤا .

                                                          [ ص: 159 ] في سورة الحج لا يقف عليه بالألف إلا من يقرأ بالنصب ، ومن يقرأ بالخفض وقف بغير ألف مع إجماع المصاحف على كتابتها بالألف ، وكذا الوقف على نحو وعادا وثمودا لا يقف عليه بالألف إلا من نون وإن كان قد كتب بالألف في جميع المصاحف فاعلم ذلك - والله أعلم - .

                                                          ( السادس ) كل ما كتب موصولا من كلمتين وكان آخر الأولى منهما حرفا مدغما فإنه حذف إجماعا واكتفى بالحرف المدغم فيه عن المدغم سواء كان الإدغام بغنة أم بغيرها كما كتبوا أما اشتملت ، وإما تخافن ، و عما تعملون ، و أمن يملك السمع ، و مما أمسكن بميم واحدة وحذفوا كلا من الميم والنون المدغمتين . وكتبوا إلا تفعلوه ، و فإلم يستجيبوا لكم ، و ألا تعلوا علي ، و ألن نجمع . بلام واحدة من غير نون فقصد بذلك تحقيق الاتصال بالإدغام ولذلك كان الاختيار في مذهب من روى الغنة عند اللام والراء حذفها مما كتب متصلا عملا بحقيقة اتباع الرسم كما تقدم في بابه - والله أعلم - .

                                                          ( السابع ) لا بأس بالتنبيه على ما كتب موصولا لتعرف أصول الكلمات وتفكيك بعضها من بعض ، فقد يقع اشتباه بسبب الاتصال على بعض الفضلاء فكيف بغيرهم ؟ فهذا إمام العربية أبو عبد الله بن مالك رحمه الله جعل إلا في قوله تعالى : إلا تنصروه فقد نصره الله من أقسام إلا الاستثنائية فجعلها كلمة واحدة ، ذكر ذلك في شرح التسهيل وذهل عن كونهما كلمتين : إن الشرطية ، ولا النافية . والأخفش إمام النحو أعرب : ولا الذين يموتون وهم كفار أن اللام لام الابتداء والذين مبتدأ وأولئك الخبر ; ورأيت أبا البقاء في إعرابه ذكره أيضا ، ولا شك أنه إعراب مستقيم لولا رسم المصاحف فإنها كتبت ، ولا فهي لا النافية دخلت على ( الذين ) و ( الذين ) في موضع جر عطفا على ( الذين ) في قوله ( وليست التوبة للذين يعملون السيئات ) وأعرب ابن الطراوة أيهم أشد على الرحمن فزعم أن " أيا " مقطوعة عن الإضافة فلذلك بنيت وأن " هم أشد " مبتدأ وخبر ، وهذا

                                                          [ ص: 160 ] غير صحيح لرسم الضمير متصلا بأي ، ولإجماع النحاة على أن أيا إذا لم تضف كانت معربة وأعرب بعض النحاة : إن هذان لساحران على أن : ( ها ) من ( هذان ) ضمير القصة والتقدير حينئذ إنها ذان لساحران ذكره أبو حيان ولولا رسم المصاحف لكان جائزا وأعرب بعضهم ومما رزقناهم ينفقون ما مصدرية ، وهم ضمير مرفوع منفصل مبتدأ وينفقون الخبر أي ( و من رزقنا هم ينفقون ) ولولا رسم المصاحف محذوفة الألف متصلة نونها بالضمير لصح ذلك - والله أعلم - .

                                                          ( الثامن ) قد يقع في الرسم ما يحتمل أن يكون كلمة واحدة وأن يكون كلمتين ويختلف فيه أهل العربية نحو ( ماذا ) يأتي في العربية على ستة ، أوجه .

                                                          ( الأول ) : ما استفهام وذا إشارة .

                                                          ( الثاني ) : ما استفهام وذا موصولة .

                                                          ( الثالث ) : أن يكون كلاهما استفهام على التركيب .

                                                          ( الرابع ) ماذا كله اسم جنس بمعنى شيء .

                                                          ( الخامس ) ما زائدة وذا إشارة .

                                                          ( السادس ) ما استفهام وذا زائدة . وتظهر فائدة ذلك في مواضع منها قوله تعالى : ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو فمن قرأ العفو بالرفع ، وهو أبو عمرو يترجح أن يكون ماذا كلمتين . ما استفهامية وذا بمعنى الذي : أي الذي ينفقون العفو فيجوز له الوقف على ما ، وعلى ذا ، وعلى قراءة الباقين يترجح أن يكون مركبة كلمة واحدة أي ينفقون العفو فلا يقف إلا على ذا ، وقوله في سورة النحل ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين فهي كقراءة أبي عمرو ( العفو ) أي ما الذي أنزل ، قالوا : الذي أنزل أساطير الأولين فتكون كلمتين يجوز الوقف على كل منهما لكل من القراءة ( وقوله ) ( وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا ) هي كقراءة غير أبي عمرو ( العفو ) بالنصب فيترجح أن تكون كلمة واحدة فيوقف على " ذا " دون " ما " ، وأما قوله تعالى : وأما الذين كفروا فيقولون ماذا نذكر فيها قولين أحدهما أن " ما " استفهام موضعها رفع بالابتداء و " ذا " بمعنى الذي وأراد صلته والعائد محذوف

                                                          [ ص: 161 ] والذي وصلتها خبر المبتدأ . والثاني أن ما اسم واحد للاستفهام وموضعه نصب بأراد .

                                                          ( قلت ) : ويحتمل أن يكون ما استفهاما وذا إشارة كقولهم ماذا التواني وكقول الشاعر :


                                                          ماذا الوقوف على نار وقد خمدت يا طال ما أوقدت للحرب نيران



                                                          فعلى هذا ، وعلى الأول هما كلمتان يوقف على كل منهما ، وعلى الثاني يوقف على الثاني لأنهما كلمة واحدة ، وذلك حالة الاضطرار والاختيار لا على التعمد والاختيار .

                                                          ( نعم ) على التقدير الثالث يجوز اختيارا ويكون كافيا على أن يكون في موضع نصب بيقولون ويكون أراد الله استئنافا وجوابا لقولهم .

                                                          ( التاسع ) قال الأستاذ أبو محمد علي بن سعيد العماني في كتابه المرشد في الوقف والابتداء وما لي لا أعبد الذي فطرني في سورة يس " ما " كلمة واحدة ، وهي حرف نفي و " لي " كلمة أخرى فهما كلمتان ما لي لا أرى الهدهد مالي كلمة واحدة للاستفهام . انتهى .

                                                          وقال الشيخ أبو البقاء العكبري في إعرابه في سورة يس " وما لي " الجمهور على فتح الياء لأن ما بعدها في حكم المتصل بها إذ كان لا يحسن الوقف عليها والابتداء ومالي لا أرى الهدهد بعكس ذلك انتهى . وكلا الكلامين لا يظهر فليتأمل ولكن لكلام أبي البقاء فيما ذكره في الوقف والابتداء وجه - والله أعلم - .

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية