الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                فلما جاءت السنة بتجنب الخبائث الجسمانية والتطهر منها : كذلك جاءت بتجنب الخبائث الروحانية والتطهر منها . حتى قال صلى الله عليه وسلم { إذا قام أحدكم من الليل فليستنشق بمنخريه من الماء ; فإن الشيطان يبيت على خيشومه } وقال : { إذا قام أحدكم من نوم الليل فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا ; فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده ؟ } فعلل الأمر بالغسل بمبيت الشيطان على خيشومه فعلم أن ذلك سبب للطهارة من غير النجاسة الظاهرة فلا يستبعد أن يكون هو السبب لغسل يد القائم من نوم الليل .

                [ ص: 13 ] وكذلك نهى عن الصلاة في أعطان الإبل ; وقال : " إنها جن خلقت من جن " كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : { الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام } وقد روي عنه : { أن الحمام بيت الشيطان } وثبت عنه : أنه لما ارتحل عن المكان الذي ناموا فيه عن صلاة الفجر قال : { إنه مكان حضرنا فيه الشيطان } .

                فعلل صلى الله عليه وسلم الأماكن بالأرواح الخبيثة كما يعلل بالأجسام الخبيثة وبهذا يقول أحمد وغيره من فقهاء الحديث ومذهبه الظاهر عنه : أن ما كان مأوى للشياطين - كالمعاطن والحمامات - حرمت الصلاة فيه .

                وما عرض الشيطان فيه - كالمكان الذي ناموا فيه عن الصلاة - كرهت فيه الصلاة . والفقهاء الذين لم ينهوا عن ذلك : إما لأنهم لم يسمعوا هذه النصوص سماعا تثبت به عندهم ; أو سمعوها ولم يعرفوا العلة : فاستبعدوا ذلك عن القياس فتأولوه .

                وأما من نقل عن الخلفاء الراشدين أو جمهور الصحابة خلاف هذه المسائل ; وأنهم لم يكونوا يتوضئون من لحوم الإبل : فقد غلط عليهم وإنما توهم ذلك لما نقل عنهم : " أنهم لم يكونوا يتوضئون مما مست النار " وإنما المراد : أن أكل ما مس النار ليس هو سببا عندهم لوجوب [ ص: 14 ] الوضوء والذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من الوضوء من لحوم الإبل ليس سببه مس النار كما يقال : كان فلان لا يتوضأ من مس الذكر . وإن كان يتوضأ منه إذا خرج منه مذي .

                ومن تمام هذا : أنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم وغيره من حديث أبي ذر وأبي هريرة رضي الله عنهما وجاء من حديث غيرهما : أنه { يقطع الصلاة الكلب الأسود والمرأة والحمار } وفرق النبي صلى الله عليه وسلم بين الكلب الأسود والأحمر والأبيض : بأن { الأسود شيطان } وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : { إن الشيطان تفلت علي البارحة ليقطع صلاتي فأخذته فأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد } - الحديث فأخبر أن الشيطان أراد أن يقطع عليه صلاته . فهذا أيضا يقتضي أن مرور الشيطان يقطع الصلاة ; فلذلك أخذ أحمد بذلك في الكلب الأسود ; واختلف قوله في المرأة والحمار ; لأنه عارض هذا الحديث حديث عائشة لما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي وهي في قبلته وحديث ابن عباس رضي الله عنهما لما اجتاز على أتانه بين يدي بعض الصف والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه بمنى مع أن المتوجه : أن الجميع يقطع وأنه يفرق بين المار واللابث كما فرق بينهما في الرجل في كراهة مروره دون لبثه في القبلة إذا استدبره المصلي ولم يكن متحدثا [ ص: 15 ] وأن مروره ينقص ثواب الصلاة دون اللبث .

                واختلف المتقدمون من أصحاب أحمد في الشيطان الجني إذا علم بمروره : هل يقطع الصلاة ؟ والأوجه : أنه يقطعها بتعليل رسول الله صلى الله عليه وسلم وبظاهر قوله : { يقطع صلاتي } لأن الأحكام التي جاءت بها السنة في الأرواح الخبيثة من الجن وشياطين الدواب في الطهارة والصلاة في أمكنتهم وممرهم ونحو ذلك : قوية في الدليل نصا وقياسا ولذلك أخذ بها فقهاء الحديث ولكن مدرك علمها أثرا هو لأهل الحديث . ومدركه قياسا : هو في باطن الشريعة وظاهرها دون التفقه في ظاهرها فقط .

                ولو لم يكن في الأئمة من استعمل هذه السنن الصحيحة النافعة لكان وصمة على الأمة ترك مثل ذلك والأخذ بما ليس بمثله لا أثرا ولا رأيا .

                ولقد كان أحمد - رحمه الله - يعجب ممن يدع حديث { الوضوء من لحوم الإبل } مع صحته التي لا شك فيها وعدم المعارض له ويتوضأ من مس الذكر مع تعارض الأحاديث فيه وأن أسانيدها ليست كأحاديث الوضوء من لحوم الإبل ولذلك أعرض عنها الشيخان : البخاري ومسلم . وإن كان أحمد على المشهور عنه يرجح أحاديث الوضوء [ ص: 16 ] من مس الذكر لكن غرضه : أن الوضوء من لحوم الإبل أقوى في الحجة من الوضوء من مس الذكر .

                وقد ذكرت ما يبين أنه أظهر في القياس منه فإن تأثير المخالطة أعظم من تأثير الملامسة ولهذا كان كل نجس محرم الأكل وليس كل محرم الأكل نجسا .

                وكان أحمد يعجب أيضا ممن لا يتوضأ من لحوم الإبل ويتوضأ من الضحك في الصلاة مع أنه أبعد عن القياس والأثر والأثر فيه مرسل قد ضعفه أكثر الناس وقد صح عن الصحابة ما يخالفه .

                والذين خالفوا أحاديث القطع للصلاة لم يعارضوها إلا بتضعيف بعضهم وهو تضعيف من لم يعرف الحديث كما ذكر أصحابه أو بأن عارضوها بروايات ضعيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { لا يقطع الصلاة شيء } أو بما روي في ذلك عن الصحابة وقد كان الصحابة مختلفين في هذه المسألة . أو برأي ضعيف لو صح لم يقاوم هذه الحجة خصوصا مذهب أحمد .

                فهذا أصل في الخبائث الجسمانية والروحانية .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية