الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          [ ص: 1086 ] 195 - فصل : أولاد المشركين ، والمذاهب العشرة فيهم .

                          وأما أولاد المشركين ، فاختلف أهل العلم فيهم على عشرة مذاهب ، نحن نذكر أدلتها ونبين راجحها من مرجوحها بحول الله وقدرته وتوفيقه .

                          المذهب الأول : الوقف في أمرهم :

                          ولا نحكم لهم بجنة ولا نار ، ونكل علمهم إلى الله : وهذا قد يعبر عنه بمذهب الوقف ، وقد يعبر عنه بمذهب المشيئة ، وأنهم تحت مشيئة الله يحكم فيهم بما يشاء ، ولا يدرى حكمه فيهم ما هو .

                          واحتج أرباب هذا القول بحجج منها :

                          ما خرجا في " الصحيحين " من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " ما من مولود إلا يولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه وينصرانه كما تنتج البهيمة من بهيمة جمعاء ، هل تحسون فيها من جدعاء ؟ " قالوا : يا رسول الله ، أفرأيت من يموت ، وهو صغير ؟ قال : " الله أعلم بما كانوا عاملين " .

                          ومنها ما في " الصحيحين " أيضا عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن أولاد المشركين ، فقال : " الله أعلم بما كانوا عاملين " ، وقد تقدمت هذه الأحاديث آنفا .

                          [ ص: 1087 ] وفي " صحيح " أبي حاتم بن حبان من حديث جرير بن حازم : قال سمعت أبا رجاء العطاردي قال : سمعت ابن عباس - رضي الله عنهما - يقول وهو على المنبر : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا يزال أمر هذه الأمة موائما - أو مقاربا - ما لم يتكلموا في الولدان والقدر " .

                          قال أبو حاتم : " الولدان " أراد بهم أطفال المشركين .

                          وفي استدلال هذه الفرقة على ما ذهبت إليه من الوقف بهذه النصوص نظر ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يجب فيهم بالوقف ، وإنما وكل علم ما كانوا يعملون لو عاشوا إلى الله ، والمعنى : " الله أعلم بما كانوا يعملون لو عاشوا " ، فهو سبحانه يعلم القابل منهم للهدى العامل به لو عاش ، والقابل منهم للكفر المؤثر له لو عاش ، ولكن لا يدل هذا على أنه سبحانه يجزيهم بمجرد علمه فيهم بلا عمل يعملونه ، وإنما يدل هذا على أنه يعلم من يؤمن ، ومن يكفر ، بتقدير الحياة .

                          [ ص: 1088 ] وأما المجازاة على العلم فلم يتضمنها جوابه - صلى الله عليه وسلم .

                          وفي " صحيح " أبي عوانة الإسفراييني ، عن هلال بن خباب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض مغازيه ، فسأله رجل : ما تقول في اللاهين ؟ فسكت عنه ، فلما فرغ من غزوة الطائف إذا هو بصبي يبحث في الأرض ، فأمر مناديه فنادى : أين السائل عن اللاهين ؟ فأقبل الرجل ، فنهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قتل الأطفال ، وقال : " الله أعلم بما كانوا عاملين " .

                          [ ص: 1089 ] فقوله : " الله أعلم بما كانوا عاملين " عقيب نهيه عن قتلهم يكشف لك المعنى ، ويوضحه ، ويبين أن الله سبحانه يعلم - لو أدركوا - ما كانوا يعملون ، وأنتم لا تعلمون ذلك ، فلعل أحدهم إذا أدرك يعمل بطاعة الله ، ويكون مسلما ، فهذا أحد الوجهين في جوابه - صلى الله عليه وسلم .

                          والوجه الثاني : أنه خرج جوابا لهم حين أخبرهم " أنهم من آبائهم " فقالوا : بلا عمل ؟ فقال : " الله أعلم بما كانوا عاملين " ، كما في " السنن " من حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت : قلت : يا رسول الله ، ذراري المؤمنين ؟ فقال : " هم من آبائهم " ، فقلت : يا رسول الله بلا عمل ؟ قال : " الله أعلم بما كانوا عاملين " ، قلت : يا رسول الله ، فذراري المشركين ؟ قال : " هم من آبائهم " ، قلت : يا رسول الله ، بلا عمل ؟ قال : " الله أعلم بما كانوا عاملين " .

                          ففي هذا الحديث ما يدل على أن الذين يلحقون بآبائهم منهم هم الذين علم الله أنهم - لو عاشوا - لاختاروا الكفر وعملوا به ، فهؤلاء مع آبائهم ، ولا يقتضي أن كل واحد من الذرية مع أبيه في النار ، فإن الكلام في هذا الجنس - سؤالا وجوابا - إنما يدل على التفصيل ، فإن قوله : " الله أعلم بما كانوا عاملين " يدل على أنهم متباينون في التبعية بحسب تباينهم في معلوم الله تعالى فيهم .

                          يبقى أن يقال : فالحديث يدل على أنهم يلحقون بآبائهم من غير عمل ، ولهذا فهمت منه عائشة - رضي الله عنها - ذلك ، فقالت : " بلا عمل ؟ " فأقرها عليه ، وقال : " الله أعلم بما كانوا عاملين " .

                          [ ص: 1090 ] ويجاب عن هذا بأن الحديث إنما دل على أنهم يلحقون بهم بلا عمل في أحكام الدنيا ، وهو الذي فهمته عائشة - رضي الله عنها - ولكن لا ينفي هذا أن يلحقوا بهم في الآخرة بأسباب أخر كامتحانهم في عرصات القيامة ، كما سنذكره إن شاء الله تعالى ، فحينئذ يلحقون بآبائهم ، ويكونون معهم بلا عمل عملوه في الدنيا .

                          وأم المؤمنين - رضي الله عنها - إنما استشكلت لحاقهم بهم بلا عمل عملوه مع الآباء ، وأجابها النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن الله يعلم منهم ما هم عاملوه ، ولم يقل لها : إنه يعذب بمجرد علمه فيهم ، وهذا ظاهر بحمد الله .

                          وأما حديث أبي رجاء العطاردي ، عن ابن عباس ففي " رفعه " نظر ، والناس إنما رووه " موقوفا عليه " وهو الأشبه ، وابن حبان كثيرا ما يرفع في كتابه ما يعلم أئمة الحديث أنه موقوف : كما رفع قول أبي بن كعب : " كل حرف في القرآن في القنوت فهو الطاعة " ، وهذا لا يشبه كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وغايته أن يكون كلام أبي .

                          [ ص: 1091 ] [ ص: 1092 ] والحديث ولو صح إنما يدل على ذم من تكلم فيهم بغير علم ، أو ضرب النصوص بعضها ببعض كما يفعله أهل الجدل والمباحثة الذين لا تحقيق عندهم ، ولم يصلوا في العلم إلى غايته ، بل هم في أطراف أذياله ، وبلاء الأمة من هذا الضرب ، وهم الغالب على الناس ، وبالله التوفيق .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية