الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأيضا : فإنه قد يعفى لصاحب الإحسان العظيم ما لا يعفى لغيره ، فإن فاعل السيئات تسقط عنه عقوبة جهنم بنحو عشرة أسباب ، عرفت بالاستقراء من الكتاب والسنة :

السبب الأول : التوبة ، قال تعالى : إلا من تاب [ مريم : 60 ، والفرقان 70 ] . إلا الذين تابوا [ البقرة : 160 ] . والتوبة النصوح ، وهي الخالصة ، لا يختص بها ذنب دون ذنب ، لكن هل تتوقف صحتها على أن تكون عامة ؟ حتى لو تاب من ذنب وأصر على آخر لا تقبل ؟ والصحيح أنها تقبل . وهل يجب الإسلام ما قبله من الشرك وغيره من الذنوب وإن لم يتب منها ؟ أم لا بد مع الإسلام من التوبة من غير الشرك ؟ حتى لو أسلم وهو مصر على الزنا وشرب الخمر مثلا ، هل يؤاخذ بما كان منه في كفره من الزنا وشرب الخمر ؟ أم لا بد أن يتوب من ذلك الذنب مع إسلامه ؟ أو يتوب توبة عامة من كل ذنب ؟ وهذا هو الأصح : أنه لا بد من التوبة مع الإسلام ، وكون التوبة سببا لغفران الذنوب وعدم المؤاخذة بها - مما لا خلاف فيه بين الأمة ، وليس شيء [ ص: 452 ] يكون سببا لغفران جميع الذنوب إلا التوبة ، قال تعالى : قل ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم [ الزمر : 53 ] وهذا لمن تاب ، ولهذا قال : لا تقنطوا وقال بعدها : وأنيبوا إلى ربكم الآية [ الزمر : 54 ] .

السبب الثاني : الاستغفار ، قال تعالى : وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون [ الأنفال : 33 ] . لكن الاستغفار تارة يذكر وحده ، وتارة يقرن بالتوبة ، فإن ذكر وحده دخل معه التوبة ، كما إذا ذكرت التوبة وحدها شملت الاستغفار . فالتوبة تتضمن الاستغفار ، والاستغفار يتضمن التوبة ، وكل واحد منهما يدخل في مسمى الآخر عند الإطلاق ، وأما عند اقتران إحدى اللفظتين بالأخرى ، فالاستغفار : طلب وقاية شر ما مضى ، والتوبة : الرجوع وطلب وقاية شر ما يخافه في المستقبل من سيئات أعماله . ونظير هذا : الفقير والمسكين ، إذا ذكر أحد اللفظين شمل الآخر ، وإذا ذكرا معا كان لكل منهما معنى . قال تعالى : إطعام عشرة مساكين [ المائدة : 89 ] . فإطعام ستين مسكينا [ المجادلة : 4 ] . وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم [ البقرة : 271 ] . لا خلاف أن كل واحد من الاسمين في هذه الآيات لما أفرد شمل المقل والمعدم ، ولما قرن أحدهما بالآخر في قوله تعالى : إنما الصدقات للفقراء والمساكين الآية [ التوبة : 60 ] - : كان المراد بأحدهما المقل ، والآخر المعدم ، على خلاف فيه .

[ ص: 453 ] وكذلك : الإثم والعدوان ، والبر والتقوى ، والفسوق والعصيان . ويقرب من هذا المعنى : الكفر والنفاق ، فإن الكفر أعم ، فإذا ذكر الكفر شمل النفاق ، وإن ذكرا معا كان لكل منهما معنى . وكذلك الإيمان والإسلام ، على ما يأتي الكلام فيه ، إن شاء الله تعالى .

السبب الثالث : الحسنات : فإن الحسنة بعشر أمثالها والسيئة بمثلها ، فالويل لمن غلبت آحاده أعشاره وقال تعالى : إن الحسنات يذهبن السيئات [ هود : 114 ] . وقال صلى الله عليه وسلم : وأتبع السيئة الحسنة تمحها .

السبب الرابع : المصائب الدنيوية قال صلى الله عليه وسلم : ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ، ولا غم ولا هم ولا حزن ، حتى الشوكة يشاكها - إلا كفر بها من خطاياه . وفي المسند : أنه لما نزل قوله تعالى : [ ص: 454 ] من يعمل سوءا يجز به [ النساء : 123 ] - قال أبو بكر : يا رسول الله ، نزلت قاصمة الظهر ، وأينا لم يعمل سوءا ؟ فقال : يا أبا بكر ، ألست تنصب ؟ ألست تحزن ؟ ألست يصيبك اللأواء ؟ فذلك ما تجزون به . فالمصائب نفسها ، مكفرة ، وبالصبر عليها يثاب العبد ، وبالتسخط يأثم . فالصبر والتسخط أمر آخر غير المصيبة ، فالمصيبة من فعل الله لا من فعل العبد ، وهي جزاء من الله للعبد على ذنبه ، ويكفر ذنبه بها ، وإنما يثاب المرء ويأثم على فعله ، والصبر والسخط من فعله ، وإن كان الثواب والأجر قد يحصل بغير عمل من العبد ، بل هدية من الغير ، أو فضلا من الله من غير سبب ، قال تعالى : ويؤت من لدنه أجرا عظيما [ النساء : 40 ] . فنفس المرض جزاء وكفارة لما تقدم .

[ ص: 455 ] وكثيرا ما يفهم من الأجر غفران الذنوب ، وليس ذلك مدلوله ، وإنما يكون من لازمه .

السبب الخامس : عذاب القبر . ويأتي الكلام عليه ، إن شاء الله تعالى .

السبب السادس : دعاء المؤمنين واستغفارهم في الحياة وبعد الممات .

السبب السابع : ما يهدى إليه بعد الموت من ثواب صدقة أو قراءة أو حج ، ونحو ذلك ، وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله تعالى .

السبب الثامن : أهوال يوم القيامة وشدائده .

السبب التاسع : ما ثبت في ( ( الصحيحين ) ) : أن المؤمنين إذا عبروا الصراط وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار ، فيقتص لبعضهم من بعض ، فإذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة .

السبب العاشر : شفاعة الشافعين ، كما تقدم عند ذكر الشفاعة وأقسامها .

السبب الحادي عشر : عفو أرحم الراحمين للذنوب من غير شفاعة ، كما قال تعالى : ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء [ النساء : 4 8 ، و 116 ] . فإن كان ممن لم يشأ الله أن يغفر له لعظم جرمه ، فلا بد من دخوله إلى الكير ، ليخلص طيب إيمانه من خبث معاصيه ، فلا يبقى في النار من في [ ص: 456 ] قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان ، بل من قال : لا إله إلا الله ، كما تقدم من حديث أنس رضي الله عنه .

وإذا كان الأمر كذلك ، امتنع القطع لأحد معين من الأمة ، غير من شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنة ، ولكن نرجو للمحسنين ، ونخاف عليهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية