الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                              السراج الوهاج من كشف مطالب صحيح مسلم بن الحجاج

                                                                                                                              صديق خان - محمد صديق حسن خان القنوجي الظاهري

                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                              3500 باب في قوله تعالى : ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا

                                                                                                                              وذكر أرواح الشهداء

                                                                                                                              وقال النووي : ( باب في بيان : أن أرواح الشهداء في الجنة ، وأنهم أحياء عند ربهم يرزقون ) .

                                                                                                                              (حديث الباب )

                                                                                                                              وهو بصحيح مسلم \ النووي ص 31-33 ج13 المطبعة المصرية

                                                                                                                              [ عن مسروق ، قال : سألنا عبد الله (هو ابن مسعود ) عن هذه الآية { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون قال: أما إنا قد سألنا عن ذلك فقال: "أرواحهم في جوف طير خضر، لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل. فاطلع إليهم ربهم اطلاعة، فقال: هل تشتهون شيئا؟ قالوا: أي شيء نشتهي، ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا؟ [ ص: 448 ] ففعل ذلك بهم ثلاث مرات. فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا، قالوا: يا رب ! نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا، حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى. فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا ".]

                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                              (الشرح)

                                                                                                                              (عن مسروق ، قال : سألنا عبد الله بن مسعود ) رضي الله عنه (عن هذه الآية : ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون ؟ قال : أما إنا قد سألنا عن ذلك ، فقال : أرواحهم في جوف طير خضر ) .

                                                                                                                              وفي غير مسلم : " بطير خضر".

                                                                                                                              وفي حديث آخر : " بحواصل طير ".

                                                                                                                              وفي الموطإ : " إنما نسمة المؤمن طير ".

                                                                                                                              وفي آخر : " في صورة طير أبيض". والمعاني متقاربة. قال عياض : وليس للأقيسة والعقول في هذا حكم. وكله من المجوزات. فإذا أراد الله أن يجعل هذه الروح (إذا خرجت [ ص: 449 ] من المؤمن أو الشهيد ) في قناديل ، أو أجواف طير ، أو حيث شاء : كان ذلك ووقع ، ولم يبعد. ولاسيما مع القول بأن الأرواح أجسام. (لها قناديل معلقة بالعرش ، تسرح من الجنة حيث شاءت ، ثم تأوي إلى تلك القناديل ) .

                                                                                                                              قال عياض : قيل : إن هذا المنعم أو المعذب من الأرواح : جزء من الجسد ، تبقى فيه الروح. وهو الذي يتألم ويعذب ، ويلتذ وينعم. وهو الذي يقول : رب ارجعون . وهو الذي يسرح في شجر الجنة ، فغير مستحيل : أن يصور هذا الجزء " طائرا " ، أو يجعل في جوف طائر ، وفي قناديل تحت العرش ، وغير ذلك مما يريد الله عز وجل.

                                                                                                                              قال النووي : فيه بيان : أن الجنة مخلوقة موجودة. وهو مذهب أهل السنة. وهي التي أهبط منها آدم. وهي التي ينعم فيها المؤمنون في الآخرة. هذا إجماع أهل السنة. وقالت المعتزلة ، وطائفة من المبتدعة أيضا وغيرهم : إنها ليست موجودة. وإنما توجد بعد البعث يوم القيامة. قالوا : والجنة التي أخرج منها آدم : غيرها. وظواهر القرآن والسنة : تدل لمذهب أهل الحق.

                                                                                                                              وفيه : إثبات مجازاة الأموات بالثواب والعقاب ، قبل القيامة.

                                                                                                                              [ ص: 450 ] قال عياض : وفيه أن الأرواح باقية لا تفنى ، فينعم المحسن ويعذب المسيء. وقد جاء به القرآن والآثار. وهو مذهب أهل السنة ، خلافا لطائفة من المبتدعة قالت : " تفنى ".

                                                                                                                              قال: وقال هنا : " أرواح الشهداء ". وقال في حديث مالك : نسمة المؤمن ". والنسمة : تطلق على ذات الإنسان " جسما وروحا ". وتطلق على "الروح " مفردة. وهو المراد بها في هذا التفسير " في الحديث الآخر " بالروح. ولعلمنا بأن الجسم يفنى ويأكله التراب ، ولقوله في الحديث : "حتى يرجعه الله تعالى إلى جسده ، يوم القيامة ".

                                                                                                                              قال : وذكر في حديث مالك "نسمة المؤمن ". وقال هنا " الشهداء " : لأن هذه صفتهم لقوله تعالى : أحياء عند ربهم يرزقون وكما فسره في هذا الحديث. وأما غيرهم : فإنما يعرض عليه مقعده بالغداة والعشي. كما جاء في حديث ابن عمر. وكما قال في آل فرعون : النار يعرضون عليها غدوا وعشيا .

                                                                                                                              قال : وقيل : بل المراد : جميع المؤمنين ، الذين يدخلون الجنة [ ص: 451 ] بغير عذاب ، فيدخلونها الآن ، بدليل عموم الحديث. وقيل : بل أرواح المؤمنين على أفنية قبورهم.

                                                                                                                              قال : وقد اختلف الناس في الروح ما هي ؟ اختلافا لا يكاد يحصر ؛ فقال كثير من أرباب المعاني وعلم الباطن ، من المتكلمين : لا تعرف حقيقته ، ولا يصح وصفه ، وهو ما جهل العباد علمه. واستدلوا بقوله تعالى : قل الروح من أمر ربي .

                                                                                                                              وغلت الفلاسفة فقالت : بعدم الروح.

                                                                                                                              وقال جمهور الأطباء : هو البخار اللطيف الساري في البدن. وقال كثيرون من شيوخنا : هو الحياة .

                                                                                                                              وقال آخرون : هي أجسام لطيفة ، مشابكة للجسم ، يحيى بحياته ، أجرى الله تعالى العادة : بموت الجسم عند فراقه.

                                                                                                                              وقيل : هو بعض الجسم. ولهذا وصف بالخروج ، والقبض ، وبلوغ الحلقوم. وهذه صفة الأجسام ، لا المعاني.

                                                                                                                              وقال بعض متقدمي أئمتنا : هو جسم لطيف ، متصور على صورة الإنسان ، داخل الجسم.

                                                                                                                              وقال بعض مشايخنا وغيرهم : إنه النفس الداخل والخارج.

                                                                                                                              وقال آخرون : هو الدم.

                                                                                                                              [ ص: 452 ] هذا ما نقله القاضي.

                                                                                                                              وقال النووي : والأصح عند الشافعية : أن الروح " أجسام لطيفة ، متخللة في البدن. فإذا فارقته ، مات. انتهى.

                                                                                                                              وأقول : الحق الذي لا محيص عنه : ما قاله الأولون . وهو : من أمر ربنا. وما أوتي الخلق من العلم إلا قليلا. ولم يكلفنا الله تعالى ولا رسوله : بالخوض في أمثال هذه المسائل.

                                                                                                                              ثم قال عياض : واختلفوا في " النفس والروح " ؛ فقيل : هما " بمعنى " وهما لفظان لمسمى واحد.

                                                                                                                              وقيل : إن " النفس " هي النفس الداخل والخارج. وقيل : هي الدم. وقيل : هي الحياة. والله أعلم. انتهى.

                                                                                                                              قلت : ويكفينا : الإقرار بوجود الروح والنفس. ولا حاجة بنا إلى تضييع أوقاتنا في الغموس في تحقيق ماهيتهما وحقيقتهما. ولاسيما قد استأثر الله سبحانه وتعالى بعلم ذلك ، ولم يطلع أحدا من خلقه على ما هنالك.

                                                                                                                              قال عياض : وقد تعلق بحديثنا هذا : بعض الملحدة القائلين بالتناسخ وانتقال الأرواح ، وتنعيمها في الصور الحسان المرفهة ، وتعذيبها في الصور القبيحة المسخرة. وزعموا : أن هذا هو الثواب والعقاب. وهذا ضلال بين. وإبطال لما جاءت به الشرائع : من الحشر ، والنشر ، [ ص: 453 ] والجنة والنار. ولهذا قال في الحديث : " حتى يرجعه الله إلى جسده ، يوم يبعثه " يعني : يوم يجيء بجميع الخلق ، والله أعلم. انتهى.

                                                                                                                              قلت : إن كان مرادهم بالتناسخ : نقل الروح من جسم إلى جسم ، ومن جسد في جسد ، في الدنيا : فهذا ضلال صرف ، وبطلان محض. وإن كان المراد به : مفارقة الروح من الجسد ، وتغييره في البرزخ من حال إلى حال ، ومن صفة إلى أخرى " نعيما وألما " : فهذا نزاع لفظي ، ليس بينه وبين ما جاءت به الشريعة الحقة منافاة. والله أعلم.

                                                                                                                              (فاطلع إليهم ربهم اطلاعة ) .

                                                                                                                              فيه : إثبات صفة " الاطلاع" له سبحانه. ولا ضرورة تدعو إلى تأويلها. بل يكفي إمرارها على ظاهرها. كما جاءت في السنة الصحيحة. ونطق بها الشارع.

                                                                                                                              (فقال : هل تشتهون شيئا ؟ قالوا : أي شيء نشتهي ، ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا ؟ ) ومن زحزح عن النار ، وأدخل الجنة فقد فاز. (ففعل ذلك بهم ثلاث مرات. فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا ، قالوا : يا رب ! نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا ، حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى. فلما رأى أن ليس لهم حاجة ثركوا ) .

                                                                                                                              فيه : أن الجهاد في سبيل الله ، والقتل في طريقه : أفضل الأعمال ، وأن أجره خير الأجور.

                                                                                                                              [ ص: 454 ] وفيه : مبالغة في إكرامهم وتنعيمهم ، إذ قد أعطاهم الله ما لا يخطر على قلب بشر ، ثم رغبهم في سؤال الزيادة فلم يجدوا مزيدا على ما أعطاهم. فسألوه حين رأوه ) أنه لا بد من سؤال : أن يرجع أرواحهم إلى أجسادهم ، ليجاهدوا في سبيله ، ويبذلوا أنفسهم فيه ، ويستلذوا بالقتل في طريقه. والله أعلم.




                                                                                                                              الخدمات العلمية