الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

وكان في زمن كسرى أنوشروان امرؤ القيس بن حجر بن الحارث بن عمرو الكندي ، واسم أمه: تملك ، وقد ذكر في قوله حيث يقول:


ألا هل أباها والحوادث حمة بأن امرأ القيس بن تملك ينفرا

أي ترك الحضر وسافر وهو من أهل نجد ، والديار التي يصف في شعره ديار بني أسد .

وكان قباذ قد ملك الحارث بن عمرو على العرب ، فملك ابنه حجرا على بني أسد ، وكان يأخذ منهم شيئا معلوما فامتنعوا منه ، فسار إليهم فأخذ سراتهم فقتلهم بالعصي ، فسموا عبيد العصا . وأسر منهم طائفة فيهم عبيد بن الأبرص ، ثم رحمهم وعفا عنهم وردهم إلى بلادهم .

ثم ملك أنوشروان فملك النعمان بن ماء السماء فهرب الحارث ، واتبعته خيل المنذر ففاتهم فأدركوا ابنه عمرا فقتلوه ، ثم إنهم قتلوا حجرا ، وكان حجر قد طرد ابنه امرأ القيس لأجل امرأة تشبب بها في شعره يقال لها: فاطمة ، وتلقب: عنيزة ، وكان يعشقها ، فطلبها زمانا ، فلم يصل إليها ، وكان يطلب غرتها حتى كان [ منها ] يوم الغدير [ ص: 139 ] [ ما ] كان بدارة جلجل ، فهو الذي يقول فيه هذا:


ألا رب يوم لك منهن صالح     ولا سيما يوم بدارة جلجل

وذلك أنه رأى نسوة يتمايلن في غدير ، فيهن عنيزة ، فأخذ ثيابهن ، وأقسم لا يعطيهن حتى يخرجن فيأخذنها ، فخرجن متكشفات ، فبلغ ذلك أباه ، فدعا مولى له فقال: اقتل امرأ القيس وائتني بعينيه . فذبح شاة وأتاه بعينيها ، فندم حجر على ذلك فقال: أبيت اللعن ، إني لم أقتله . قال: فأتني به . فانطلق فرده إليه فنهاه عن قول الشعر ، ثم بلغه أنه قال:


ألا انعم صباحا أيها الطلل البالي

.

وطرده ، فبلغه قتل أبيه فقال: ضيعني صغيرا وحملني دمه كبيرا ، ثم آلى أن لا يأكل لحما ولا يشرب خمرا حتى يأخذ بثأر أبيه .

وخرج إلى قيصر فطلب النصر ، فعشقته بنت الملك ، فكان يأتيها ، وفطن بذلك الطماح بن قيس الأسدي ، وكان حجر قتل أباه فوشى به إلى قيصر ، فهرب امرؤ القيس ، فبعث قيصر في طلبه ، فأدركه دون أنقرة بيوم ، ومعه حلة مسمومة ، فلبسها في يوم صائف ، فتناثر لحمه ، وتقطر جلده ، فقال حين حضرته الوفاة:


وطعنة مسحنفره     وجفنة مثعنجره
تبقى غدا بأنقره

وهو آخر شيء تكلم به .

وكان امرؤ القيس قد ماتت أمه في صغره فأرضعه أهله بلبن كلبة ، فكان إذا عرق فاح منه ريح الكلب ، وكان النساء يبغضنه . [ ص: 140 ] وتزوج امرأة فاستطالت ليلتها معه ، فقال: ما تكرهين مني ؟ فقالت: إنك ثقيل الصدر ، سريع الإراقة ، بطيء الإفاقة ، ريحك ريح كلب . فطلقها .

وقال مؤلف الكتاب: وقد روينا أن قوما من اليمن أقبلوا يريدون رسول الله صلى الله عليه وسلم فضلوا الطريق ، وأعوزهم الماء ، فإذا ركب على بعير ، فأنشد بعضهم يقول:


ولما رأت أن الشريعة قصدها     وأن البياض من فرائضها دامي
تيممت العين التي عند ضارج     يفيء عليها الظل عرمضها طامي

فقال الراكب: من يقول هذا ؟ فقالوا: امرؤ القيس . قال: ما كذب والله هذا ضارج عندكم . فمشوا ، فإذا ماء عذب عليه العرمض ، فشربوا ولولا ذلك لهلكوا .

ولما وردوا أخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقالوا: أحيانا الله ببيتين من شعر امرئ القيس . فقال: " ذاك الرجل مشهور في الدنيا خامل في الآخرة ، مذكور في الدنيا منسي في الآخرة ، معه لواء الشعراء يقودهم إلى النار " .

أخبرنا ابن الحصين قال: أخبرنا ابن المذهب قال: أخبرنا أحمد بن جعفر قال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: حدثني أبي قال: حدثنا هشيم قال: أخبرنا أبو الجهم ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " امرؤ القيس صاحب لواء الشعراء إلى النار " .

قال مؤلف الكتاب: واعلموا أن أوائل الشعر لم تكن إلا الأبيات اليسيرة يقولها الرجل عند حدوث الحاجة له ، فأول من ابتدع المعاني العجيبة والنسيب الدقيق ، مع [ ص: 141 ] قرب المأخذ: امرؤ القيس ، فمن أبياته اللطيفة البديعة قصيدته المشهورة:


قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل     بسقط اللوى بين الدخول فحومل
فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها     لما نسجتها من جنوب وشمأل
كأني غداة البين يوم تحملوا     لدى سمرات الحي ناقف حنظل
وقوفا بها صحبي علي مطيهم     يقولون لا تهلك أسى وتجمل
وإن شفائي عبرة مهراقة     فهل عند رسم دارس من معول
أغرك مني أن حبك قاتلي     وأنك مهما تأمري القلب يفعل
وما ذرفت عيناك إلا لتضربي     بسهميك في أعشار قلب مقتل
وليل كموج البحر أرخى سدوله     علي بأنواع الهموم ليبتلي
فقلت له لما تمطى بصدره     وأردف أعجازا وناء بكلكل
ألا أيها الليل الطويل ألا انجل     بصبح وما الإصباح فيك بأمثل

وله فيها يصف الفرس:


مكر مفر مقبل مدبر معا     كجلمود صخر حطه السيل من عل

وله:


خليلي مرا بي على أم جندب     نقضي لبانات الفؤاد المعذب
ألم تر أني كلما جئت طارقا     وجدت بها طيبا وإن لم تطيب
ألا ليت شعري كيف جادت بوصلها     وكيف يضن بالإخاء المغيب
أدامت على ما بيننا من نصيحة     أميمة أم صارت لقول المخيب
ولله عينا من رأى من تفرق     أشت وأنأى من فراق المحصب
غداة غدوا فينا إلى بطن نخلة     وآخر منهم جازع نجد كبكب
فإنك لم تقطع لبانة عاشق     بمثل غدو أو رواح موؤب

وكان لكسرى أولاد ، فجعل الملك بعده لابنه هرمز .

التالي السابق


الخدمات العلمية