الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 326 ] فصل

فإذا باع الراهن الرهن فهو موقوف على إجازة المرتهن أو قضاء دينه ، وإن أعتق العبد الرهن نفذ عتقه ، فيطالب بأداء الدين إن كان حالا ، وإن كان مؤجلا رهن قيمة العبد ، وإن كان معسرا سعى العبد في الأقل من قيمته والدين ، ويرجع على المولى إذا أيسر ، وإن استهلكه أجنبي فالمرتهن يضمنه قيمته يوم هلك ، وليس له أن ينتفع ( ف ) بالرهن ، فإن أعاره المرتهن فقبضه الراهن خرج من ضمانه ، فلو هلك في يد الراهن هلك بغير شيء ، وإن وضعاه على يد عدل جاز ، وإن شرطا ذلك في العقد فليس لأحدهما أخذه ، ويهلك من ضمان المرتهن ، ويجوز أن يوكل المرتهن وغيره على بيع الرهن ، فإن شرطها في عقد الرهن لم ينعزل بموت الراهن ولا بعزله; وإذا مات الراهن باع وصيه الرهن وقضى الدين ، فإن لم يكن له وصي نصب القاضي من يفعل ذلك; ومن استعار شيئا ليرهنه جاز ، وإن لم يسم ما يرهنه به ، فإن عين ما يرهنه به فليس له أن يزيد عليه ولا ينقص .

التالي السابق


فصل

( فإذا باع الراهن الرهن فهو موقوف على إجازة المرتهن أو قضاء دينه ) لتعلق حقه بحبسه [ ص: 327 ] على ما بينا فيتوقف إبطاله على رضاه أو زوال حقه ، فإذا أجاز فقد رضي بزوال حقه في الحبس ، وإذا قضى دينه فقد زال حقه في الحبس فعمل المقتضى عمله ، وهو صدور الركن من الأهل مضافا إلى المحل ، ثم إذا أجاز البيع ونفذ انتقل حقه إلى بدنه ، لأن له الحكم المبدل كالعبد المديون إذا بيع برضا الغرماء انتقل حقهم إلى بدله ، والفقه فيه أنه إنما رضي بالانتقال دون السقوط ، وإن لم يجز البيع قيل ينفسخ كعقد الفضولي حتى لو استفكه الراهن لا سبيل للمشتري عليه ، وقيل لا ينفسخ ، قالوا : وهو الأصح لأن التوقف إنما كان صيانة لحق المرتهن عن البطلان ، وحقه في الحبس ، وذلك لا يمنع الانعقاد فيبقى موقوفا إن شاء المشتري صبر حتى يستفكه الراهن ، وإن شاء فسخ القاضي لعجزه عن التسليم ، وصار كإباق العبد بعد البيع قبل القبض ، فإن المشتري يتخير كما ذكرنا .

قال : ( وإن أعتق العبد الرهن نفذ عتقه ) لصدور ركن الإعتاق من الأهل مضافا إلى المحل ، ولا خفاء فيهما عن ولاية ، وهي ملك الرقبة ، فيعتق كما إذا أعتق المشتري قبل القبض ، والآبق والمغصوب . وإذا زال ملكه عن الرقبة بالإعتاق زال ملك المرتهن في اليد بناء عليه كالعبد المشترك ، وثم يزول ملك الرقبة فلأن يزول هنا ملك اليد أولى ، بخلاف البيع والهبة ، فإنه إنما يوقف لعدم القدرة على التسليم ، ولأن في نفاذ العتق تحصيل منفعة العبد والمولى ، وهو ظاهر من غير فوات مصلحة المرتهن لأنه يجب له إما سعاية العبد ، أو رهنية قيمته ، أو أداء الدين حالا ، ولو لم ينفذ العتق بطلت مصلحة المعتق والمعتق لا إلى جابر ، فكان نفاذه أتم مصلحة وأعم فائدة فكان أولى ، وإذا نفذ العتق بطل الرهن لفوات محله ( فيطالب بأداء الدين إن كان حالا ) إذ هو الواجب في الديون الحالة ، ولا فائدة في طلب القيمة فإنه متى قبضها والدين حال وقعت المقاصة .

( وإن كان مؤجلا رهن قيمة العبد ) لقيامها مقام العبد ، فإذا حل الدين وهو من جنس حقه اقتص منه بقدره ورد الفضل .

( وإن كان معسرا سعى العبد في الأقل من قيمته والدين ) لأنه تعذر أخذ الحق من جهة المعتق ، فيؤخذ ممن حصلت له فائدة العتق وهو العبد ، لأن الخراج بالضمان ، ويسعى في الأقل منهما ، لأن الدين إن كان أقل فالحاجة تندفع به ، وإن كانت القيمة أقل فهو إنما حصل له هذا القدر فلا تجب عليه الزيادة .

[ ص: 328 ] ( ويرجع على المولى إذا أيسر ) لأنه اضطر إلى قضاء دينه بحكم الشرع فيرجع عليه ، خلاف المستسعى ؛ لأنه يسعى لتحصيل العتق عند أبي حنيفة ، ولتكميله عندهما ، وهاهنا تم عتقه ، وإنما يسعى في ضمان على غيره فيرجع كمعير الرهن; ولو دبر الراهن الرهن أو كانت أمة فاستولدها صح; أما التدبير فلما مر ، وأما الاستيلاد فلأن حقه أقوى من حق الأب في جارية الابن ، وقد صح ثم فهنا أولى ، وحق المرتهن مجبور بالسعاية أو التضمين ، فإن كان المولى موسرا فحكمه ما مر في العتق ، وإن كان معسرا سعيا في جميع الدين ، لأن كسبهما للمولى ولهذا لا يرجعان عليه ، وإذا استهلك الراهن الرهن فهو كالعتق .

قال : ( وإن استهلكه أجنبي فالمرتهن يضمنه قيمته يوم هلك ) فيكون رهنا مكانه لأن حقه ثابت في حبس العين ، فكذا في بدله ، فإن كانت قيمته يوم القبض ألفا وضمنه خمسمائة سقط من الدين خمسمائة كأنها هلكت بآفة سماوية .

قال : ( وليس له أن ينتفع بالرهن ) لما فيه من تفويت حق المرتهن وهو الحبس الدائم الذي يقتضيه العقد كما بينا .

قال : ( فإن أعاره المرتهن فقبضه الراهن خرج من ضمانه ، فلو هلك في يد الراهن هلك بغير شيء ) لزوال الحبس المضمون ووصوله إلى يد الراهن ، وله أن يسترجعه لبقاء عقد الراهن; ولهذا لو مات الراهن قبل رده فالمرتهن أحق به من سائر الغرماء ، وإذا أخذه عاد الضمان بعود القبض في عقد الرهن فتعود صفته .

قال : ( وإن وضعاه على يد عدل جاز ) لأنه نائب عن الراهن في الحفظ ، وعن المرتهن في الحبس ، ويجوز أن تكون اليد الواحدة في حكم يدين وشخص واحد بمنزلة شخصين ، كمن عجل الزكاة كان الساعي كالمالك حتى لو هلك النصاب قبل الحول أخذه من يده ، وفي منزلة الفقير حتى لو هلكت في يده سقطت كما لو دفعها إلى الفقير .

( وإن شرطا ذلك في العقد فليس لأحدهما أخذه ) لتعلق حقهما به الراهن في الحفظ والمرتهن في الاستيفاء ، ولا يملك أحدهما إبطال حق الآخر .

[ ص: 329 ] قال : ( ويهلك من ضمان المرتهن ) لأن يده يد المرتهن وهي مضمونة في حق المالية ، ولو دفعه إلى أحدهما ضمن لأنه مودع الراهن في العين ، والمرتهن في المالية وكل واحد منهما أجنبي عن الآخر فيضمن كالمودع إذا دفعه إلى أجنبي ، والعدل يبيع ولد المرهونة ويجبر على البيع عند طلب المرتهن ، ولا ينعزل بعزل الموكل وموته ، ويملك مصارفة الثمن إذا خالف جنس الدين ، والوكيل المفرد لا يملك شيئا من ذلك .

قال : ( ويجوز أن يوكل المرتهن وغيره على بيع الرهن ) لأنه أهل للتوكيل ، وقد وكل ببيع ماله .

( فإن شرطها في عقد الرهن لم ينعزل بموت الراهن ولا بعزله ) لأن الوكالة صارت وصفا للرهن بالشرط فتبقى ببقاء أصله ، وقد تعلق به حق المرتهن ، وليس للراهن إبطاله ولا للورثة لتقدم حقه على حقهم وبقاء الرهن بعد موته ، ولو شرط البيع بعد الرهن ، قال الكرخي ينعزل بالعزل والموت لعدم اشتراطه في العقد . وعن أبي يوسف أنه لا ينعزل ، واختاره بعض المشايخ .

قال : ( وإذا مات الراهن باع وصيه الرهن وقضى الدين ) لأن الدين حل بموته والوصي قائم مقامه ، ولو كان الراهن حيا كان له بيعه لإيفاء الدين بأمر المرتهن فكذا هذا .

( فإن لم يكن له وصي نصب القاضي من يفعل ذلك ) لأنه نصب لصالح المسلمين ، والنظر لهم عند عجزهم ، والنظر فيما ذكرنا ؛ لأنه يحتاج إلى قضاء ما عليه من الديون الحائلة بينه وبين الجنة .

قال : ( ومن استعار شيئا ليرهنه جاز ، وإن لم يسم ما يرهنه به ) لأن الإطلاق في العارية معتبر لأنه لا يفضي إلى المنازعة ، وله أن يرهنه بأي قدر شاء وأي نوع شاء ممن شاء عملا بالإطلاق .

( فإن عين ما يرهنه به ، فليس له أن يزيد عليه ولا ينقص ) أما الزيادة فلأنه ربما احتاج المعير إلى فكاك الرهن فيؤدي قدر الدين وما رضي بأداء القدر الزائد على ما عينه ، أو لأنه يتعسر عليه ذلك فيتضرر به; وأما النقصان فلأن الزائد على قدر الدين يكون أمانة ، وما رضي إلا أن يكون مضمونا كله ، فكان التعيين مفيدا فيتقيد به ، وإن رهنه بجنس آخر ضمن لأنه لم يرض به; وكذا لو عين رجلا فرهن عند غيره لتفاوت الناس في الحفظ والملاءة والقضاء; وكذلك لو قيده ببلدة فرهنه بأخرى ضمن ، والمعير إن شاء ضمن الراهن لتعديه حيث خالف ، وإن شاء المرتهن لأنه قبض ماله [ ص: 330 ] بغير أمره ، فإن ضمن الراهن ملك الرهن فصار كأنه رهن ملكه فترتب عليه أحكامه ، وإن ضمن المرتهن رجع بدينه وبما ضمن على الراهن لأنه بسببه وغروره ، ولو رهنه بما عين فهلك في يد المرتهن صار مستوفيا دينه كما تقدم ، وعلى الراهن للمعير مثله ؛ لأنه صار قاضيا دينه فيرجع بمثله : ولو دخله عيب نقص من الدين بحسابه ويضمنه لرب العارية; ولو كانت قيمته أقل من الدين ضمن الراهن للمعير قيمته ؛ لأنه صار قاضيا من دينه بقدرها; ولو هلك عند المستعير قبل الرهن أو بعد الفكاك لا يضمن ؛ لأنه قبضه بإذن المالك ولم يقض دينه منه .

وإذا أعطى المعير الدين ليأخذ الرهن أجبر المرتهن على دفعه إليه ، ورجع بذلك على الراهن لأنه غير متبرع في ذلك لحاجته إلى خلاص ملكه ولو اختلفا في مقدار ما أمره به فالقول للمعير ؛ لأنه منه يستفاد ، ألا يرى أن له إنكار الأصل ؟ فكذا الوصف .



فصل

جناية الراهن على الرهن مضمونة ؛ لأنه كالأجنبي في المالية حيث تعلق بها حق الغير حبسا واستيفاء ، وجناية المرتهن يسقط من الدين بقدرها ؛ لأنه لو نقص لا بفعله يسقط فبفعله أولى ، وجناية الرهن على الراهن وماله هدر; والمراد جناية توجب المال لأنها جناية المملوك على مالكه ، وكذلك جنايته على المرتهن ، لأنها لو اعتبرت كان عليه تطهيره منها لحدوثها في ضمانه ، ولا يجب له الضمان ، وعليه الخلاص لعدم الفائدة .

وقال أبو يوسف ومحمد : هي معتبرة لأنها على غير المالك ، وفي اعتبارها فائدة وهي دفعه إلى الجناية ، ويبطل الرهن ، وإن لم يطلب المرتهن الجناية بقي رهنا على حاله ، وإن جنى على ماله وقيمته والدين سواء لا يعتبر بالإجماع لعدم الفائدة ، وإن كانت القيمة أكثر فكذا عند أبي حنيفة ، وعنه أنه يعتبر بقدر الأمانة لجناية الوديعة على المستودع .




الخدمات العلمية