الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
[ ص: 194 ] فصل واعلم أن تحقيق الكلام دون التحريف فيه أن يقال: إن هذه الآية ليست بمنسوخة ، لأنه لم يأمر بالعفو مطلقا ، وإنما أمر به إلى غاية وبين الغاية بقوله: حتى يأتي الله بأمره وما بعد الغاية يكون حكمه مخالفا لما قبلها ، وما هذا سبيله لا يكون أحدهما ناسخا للآخر ، بل يكون الأول قد انقضت مدته بغايته ، والآخر محتاج إلى حكم آخر ، وقد ذهب إلى ما قلته جماعة من فقهاء المفسرين، وهو الصحيح ، وهذا إذا قلنا: إن المراد العفو عن قتالهم ، وقد قال الحسن : هذا فيما بينكم وبينهم دون ترك حق الله تعالى حتى يأتي الله بالقيامة .

وقال غيره: بالعقوبة ، فعلى هذا يكون الأمر بالعفو محكما لا منسوخا .

[ ص: 195 ] ذكر الآية السابعة: قوله تعالى: ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله اختلف المفسرون في المراد بهذه الآية على ثمانية أقوال: أحدها: أنها نزلت في اشتباه القبلة .

" أخبرنا أبو بكر بن حبيب ، قال: أخبرنا علي بن الفضل ، قال: أخبرنا محمد بن عبد الصمد ، قال: حدثنا عبد الله بن أحمد ، قال: أخبرنا إبراهيم بن خريم ، قال: حدثنا عبد الحميد ، قال: أخبرنا يزيد بن هارون ، قال: أخبرنا أشعث بن سعيد ، قال: حدثنا عاصم بن عبيد الله ، عن عبد الله بنا عامر بن ربيعة ، عن أبيه ، قال: " كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة في ليلة سوداء مظلمة ، فلم نعرف القبلة ، فذكرنا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله: ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم [ ص: 196 ] وروى جابر بن عبد الله ، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية كنت فيها ، فأصابتنا ظلمة فلم نعرف القبلة ، فقالت طائفة: القبلة هاهنا فصلوا وخطوا خطا ، وقال بعضهم هاهنا فصلوا وخطوا خطا ، فلما أصبحنا أصبحت تلك الخطوط لغير القبلة ، فلما قفلنا من سفرنا سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، فسكت ، فأنزل الله تعالى: فأينما تولوا فثم وجه الله .

[ ص: 197 ]
قلت: وهذا الحكم باق عندنا ، وإن من اشتبهت عليه القبلة فصلى بالاجتهاد فصلاته صحيحة مجزية ، وهو قول سعيد بن المسيب ، ومجاهد ، وعطاء ، والشعبي ، والنخعي ، وأبي حنيفة ، وللشافعي ، قولان: [ ص: 198 ] أحدهما: كمذهبنا .

والثاني: يجب الإعادة ، وقال الحسن ، والزهري ، وربيعة يعيد في الوقت ، فإذا فات الوقت لم يعد ، وهو قول مالك .

القول الثاني: إن المراد بالآية صلاة التطوع .

" أخبرنا أبو بكر بن حبيب ، قال: أبنا علي بن الفضل ، قال: أخبرنا ابن عبد الصمد ، قال: أخبرنا عبد الله بن أحمد بن حموية ، قال: أبنا [ ص: 199 ] إبراهيم بن خريم ، قال: حدثنا عبد الحميد ، قال: أخبرنا يزيد بن هارون ، قال: أخبرنا عبد الملك بن أبي سليمان ، قال: سمعت سعيد بن جبير يحدث ، عن ابن عمر ، قال: " كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي على راحلته تطوعا أينما توجهت به ، وهو جاء من مكة إلى المدينة ، ثم قرأ ابن عمر : ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله ، فقال ابن عمر رضي الله عنه: في هذا أنزلت الآية " القول الثالث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما صلى على النجاشي ، قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف نصلي على رجل مات وهو يصلي على غير قبلتنا ؟ ، وكان يصلي إلى بيت المقدس حتى مات ، وقد صرفت القبلة إلى الكعبة ، فنزلت هذه الآية ، رواه عطاء ، عن ابن عباس رضي الله عنهما .

[ ص: 200 ] القول الرابع أن المراد بالآية: أينما كنتم من شرق أو غرب فاستقبلوا الكعبة ، قاله مجاهد .

القول الخامس أن اليهود لما تكلموا حين صرفت القبلة إلى الكعبة نزلت هذه الآية ، ومعناها لا تلتفتن إلى اعتراض اليهود بالجهل ، وإن المشرق والمغرب لله يتعبدكم بالصلاة إلى مكان ثم يصرفكم عنه كما يشاء ، ذكره أبو بكر بن الأنباري ، وقد روى معناه عن ابن عباس رضي الله عنهما .

[ ص: 201 ] والقول السادس أنه ليس المراد بالصلاة وحدها وإنما معنى الآية من أي وجه قصدتم الله ، وعلى أي حال عبدتموه ، علم ذلك وأثابكم عليه .

والعرب تجعل الوجه بمعنى القصد ، قال الشاعر: أستغفر الله ذنبا لست محصيه رب العباد إليه الوجه والعمل معناه: إليه القصد والتقدم ، ذكره محمد بن القاسم أيضا .

والقول السابع: أن معنى الآية أينما كنتم من الأرض فعلم الله بكم محيط ، لا يخفى عليه شيء من أعمالكم ، ذكره ابن القاسم أيضا ، وعلى هذه الأقوال الآية محكمة .

القول الثامن: ذكر أربابه أنها منسوخة ، فروى عكرمة ، عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال: أول ما نسخ من القرآن شأن القبلة ، قوله [ ص: 202 ] تعالى: ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله ، فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم بصلاته صخرة بيت المقدس فصلى إليها ، وكانت قبلة اليهود ، ليؤمنوا به وليتبعوه وليدعو بذلك الأميين من العرب ، فنسخ ذلك ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره .

" أخبرنا إسماعيل بن أحمد السمرقندي ، قال: أبنا أبو الفضل عمر بن عبيد الله البقال ، قال: أبنا أبو الحسين علي بن محمد بن بشران ، قال: أبنا أبو الحسين إسحاق بن أحمد الكاذي ، قال: أبنا عبد الله بن حنبل ، قال: حدثني أبي ، قال: حدثني حجاج بن محمد ، قال: أنبا ابن جريج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال: " أول ما نسخ من القرآن ، فيما ذكر لنا والله أعلم ، شأن القبلة ، قال: [ ص: 203 ] ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى نحو بيت المقدس ، وترك البيت العتيق ، ثم صرفه الله إلى البيت العتيق ، فقال: سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها يعنون بيت المقدس ، فنسخها وصرف إلى البيت العتيق ، فقال: ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره " قال أحمد بن حنبل : وحدثنا عبد الوهاب بن عطاء ، أخبرنا سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة : " فأينما تولوا فثم وجه الله ، قال: كانوا يصلون نحو بيت المقدس ، ونبي الله بمكة ، وبعدما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا ، ثم وجهه الله تعالى بعد ذلك نحو الكعبة البيت الحرام " قال أحمد ، وأبنا عبد الصمد بن عبد الوارث ، قال: بنا همام ، قال: أبنا قتادة : فأينما تولوا فثم وجه الله ، قال: وكانوا يصلون نحو بيت المقدس ثم وجهه الله نحو الكعبة .

[ ص: 204 ] وقال عز وجل: فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره ، فنسخت هذه الآية ما كان قبلها من قبلة " أخبرنا محمد بن عبد الله العامري ، قال: أبنا علي بن الفضل ، قال: أبنا محمد بن عبد الصمد ، قال: أبنا عبد الله بن أحمد ، قال: أبنا إبراهيم بن خريم ، قال: أبنا عبد الحميد ، قال: أبنا يونس ، عن شيبان ، عن قتادة " فأينما تولوا فثم وجه الله ، قال: نسخ هذا بعد ذلك ، فقال الله عز وجل: فول وجهك شطر المسجد الحرام " .

قلت: وهذا قول أبي العالية والسدي .

التالي السابق


الخدمات العلمية