ثم قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=114قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين ) .
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : أما الكلام في ( اللهم ) فقد تقدم بالاستقصاء في سورة آل عمران في قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=26قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء ) [آل عمران : 26] فقوله : ( اللهم ) نداء ، وقوله : ( ربنا ) نداء ثان ، وأما قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=114تكون لنا ) صفة للمائدة وليس بجواب للأمر ، وفي قراءة
عبد الله ( تكن ) لأنه جعله جواب الأمر . قال
الفراء : وما كان من نكرة قد وقع عليها أمر جاز في الفعل بعده الجزم والرفع ، ومثاله قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=5فهب لي من لدنك وليا nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=6يرثني ) [مريم : 6] بالجزم والرفع (
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=34فأرسله معي ردءا يصدقني ) [القصص : 34] بالجزم والرفع .
وأما قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=114عيدا لأولنا وآخرنا ) أي نتخذ اليوم الذي تنزل فيه المائدة عيدا نعظمه نحن ومن يأتي بعدنا ، ونزلت يوم الأحد فاتخذه
النصارى عيدا ، والعيد في اللغة اسم لما عاد إليك في وقت معلوم ، واشتقاقه من عاد يعود ، فأصله هو العود ، فسمي العيد عيدا لأنه يعود كل سنة بفرح جديد ، وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=114وآية منك ) أي دلالة على توحيدك وصحة نبوة رسولك (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=114وارزقنا ) أي وارزقنا طعاما نأكله (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=114وأنت خير الرازقين ) .
المسألة الثانية : تأمل في هذا الترتيب فإن
nindex.php?page=treesubj&link=29434_32430_33951الحواريين لما سألوا المائدة ذكروا في طلبها أغراضا ، فقدموا ذكر الأكل فقالوا : (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=113نريد أن نأكل منها ) وأخروا الأغراض الدينية الروحانية ، فأما
عيسى فإنه لما طلب المائدة وذكر أغراضه فيها قدم الأغراض الدينية وأخر غرض الأكل حيث قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=114وارزقنا ) وعند هذا يلوح لك مراتب درجات الأرواح في كون بعضها روحانية وبعضها جسمانية ، ثم إن
عيسى عليه السلام لشدة صفاء دينه وإشراق روحه لما ذكر الرزق بقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=114وارزقنا ) لم يقف عليه بل انتقل من الرزق إلى الرزاق فقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=114وأنت خير الرازقين ) فقوله : ( ربنا ) ابتداء منه بذكر الحق سبحانه وتعالى ، وقوله : ( أنزل علينا ) انتقال من الذات إلى الصفات ، وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=114تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا ) إشارة إلى
nindex.php?page=treesubj&link=18273_19612_29699_29485ابتهاج الروح بالنعمة لا من حيث إنها نعمة ، بل من حيث إنها صادرة عن المنعم ، وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=114وآية منك ) إشارة إلى كون هذه المائدة دليلا لأصحاب النظر والاستدلال ، وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=114وارزقنا ) إشارة إلى حصة النفس ، وكل ذلك نزول من حضرة الجلال . فانظر كيف ابتدأ بالأشرف فالأشرف نازلا إلى الأدون فالأدون . ثم قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=114وأنت خير الرازقين ) وهو عروج مرة أخرى من الخلق إلى الخالق ومن غير الله إلى الله ومن الأخس إلى الأشرف ، وعند ذلك تلوح لك شمة من كيفية عروج الأرواح المشرقة النورانية الإلهية ونزولها ، اللهم اجعلنا من أهله .
[ ص: 110 ] المسألة الثالثة : في قراءة
زيد ( يكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا ) والتأنيث بمعنى الآية .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=114قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ ) .
وَفِيهِ مَسَائِلُ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : أَمَّا الْكَلَامُ فِي ( اللَّهُمَّ ) فَقَدْ تَقَدَّمَ بِالِاسْتِقْصَاءِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ فِي قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=26قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ ) [آلِ عِمْرَانَ : 26] فَقَوْلُهُ : ( اللَّهُمَّ ) نِدَاءٌ ، وَقَوْلُهُ : ( رَبَّنَا ) نِدَاءٌ ثَانٍ ، وَأَمَّا قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=114تَكُونُ لَنَا ) صِفَةٌ لِلْمَائِدَةِ وَلَيْسَ بِجَوَابٍ لِلْأَمْرِ ، وَفِي قِرَاءَةِ
عَبْدِ اللَّهِ ( تَكُنْ ) لِأَنَّهُ جَعَلَهُ جَوَابَ الْأَمْرِ . قَالَ
الْفَرَّاءُ : وَمَا كَانَ مِنْ نَكِرَةٍ قَدْ وَقَعَ عَلَيْهَا أَمْرٌ جَازَ فِي الْفِعْلِ بَعْدَهُ الْجَزْمُ وَالرَّفْعُ ، وَمِثَالُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=5فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=6يَرِثُنِي ) [مَرْيَمَ : 6] بِالْجَزْمِ وَالرَّفْعِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=34فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي ) [الْقَصَصِ : 34] بِالْجَزْمِ وَالرَّفْعِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=114عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا ) أَيْ نَتَّخِذُ الْيَوْمَ الَّذِي تَنْزِلُ فِيهِ الْمَائِدَةُ عِيدًا نُعَظِّمُهُ نَحْنُ وَمَنْ يَأْتِي بَعْدَنَا ، وَنَزَلَتْ يَوْمَ الْأَحَدِ فَاتَّخَذَهُ
النَّصَارَى عِيدًا ، وَالْعِيدُ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِمَا عَادَ إِلَيْكَ فِي وَقْتٍ مَعْلُومٍ ، وَاشْتِقَاقُهُ مِنْ عَادَ يَعُودُ ، فَأَصْلُهُ هُوَ الْعَوْدُ ، فَسُمِّيَ الْعِيدُ عِيدًا لِأَنَّهُ يَعُودُ كُلَّ سَنَةٍ بِفَرَحٍ جَدِيدٍ ، وَقَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=114وَآيَةً مِنْكَ ) أَيْ دَلَالَةً عَلَى تَوْحِيدِكَ وَصِحَّةِ نُبُوَّةِ رَسُولِكَ (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=114وَارْزُقْنَا ) أَيْ وَارْزُقْنَا طَعَامًا نَأْكُلُهُ (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=114وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ ) .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : تَأَمَّلْ فِي هَذَا التَّرْتِيبِ فَإِنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=29434_32430_33951الْحَوَارِيِّينَ لَمَّا سَأَلُوا الْمَائِدَةَ ذَكَرُوا فِي طَلَبِهَا أَغْرَاضًا ، فَقَدَّمُوا ذِكْرَ الْأَكْلِ فَقَالُوا : (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=113نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا ) وَأَخَّرُوا الْأَغْرَاضَ الدِّينِيَّةَ الرُّوحَانِيَّةَ ، فَأَمَّا
عِيسَى فَإِنَّهُ لَمَّا طَلَبَ الْمَائِدَةَ وَذَكَرَ أَغْرَاضَهُ فِيهَا قَدَّمَ الْأَغْرَاضَ الدِّينِيَّةَ وَأَخَّرَ غَرَضَ الْأَكْلِ حَيْثُ قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=114وَارْزُقْنَا ) وَعِنْدَ هَذَا يَلُوحُ لَكَ مَرَاتِبُ دَرَجَاتِ الْأَرْوَاحِ فِي كَوْنِ بَعْضِهَا رُوحَانِيَّةً وَبَعْضِهَا جُسْمَانِيَّةً ، ثُمَّ إِنَّ
عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِشِدَّةِ صَفَاءِ دِينِهِ وَإِشْرَاقِ رُوحِهِ لَمَّا ذَكَرَ الرِّزْقَ بِقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=114وَارْزُقْنَا ) لَمْ يَقِفْ عَلَيْهِ بَلِ انْتَقَلَ مِنَ الرِّزْقِ إِلَى الرَّزَّاقِ فَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=114وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ ) فَقَوْلُهُ : ( رَبَّنَا ) ابْتِدَاءٌ مِنْهُ بِذِكْرِ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، وَقَوْلُهُ : ( أَنْزِلْ عَلَيْنَا ) انْتِقَالٌ مِنَ الذَّاتِ إِلَى الصِّفَاتِ ، وَقَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=114تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا ) إِشَارَةٌ إِلَى
nindex.php?page=treesubj&link=18273_19612_29699_29485ابْتِهَاجِ الرُّوحِ بِالنِّعْمَةِ لَا مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا نِعْمَةٌ ، بَلْ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا صَادِرَةٌ عَنِ الْمُنْعِمِ ، وَقَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=114وَآيَةً مِنْكَ ) إِشَارَةٌ إِلَى كَوْنِ هَذِهِ الْمَائِدَةِ دَلِيلًا لِأَصْحَابِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ ، وَقَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=114وَارْزُقْنَا ) إِشَارَةٌ إِلَى حِصَّةِ النَّفْسِ ، وَكُلُّ ذَلِكَ نُزُولٌ مِنْ حَضْرَةِ الْجَلَالِ . فَانْظُرْ كَيْفَ ابْتَدَأَ بِالْأَشْرَفِ فَالْأَشْرَفِ نَازِلًا إِلَى الْأَدْوَنِ فَالْأَدْوَنِ . ثُمَّ قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=114وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ ) وَهُوَ عُرُوجٌ مَرَّةً أُخْرَى مِنَ الْخَلْقِ إِلَى الْخَالِقِ وَمِنْ غَيْرِ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ وَمِنَ الْأَخَسِّ إِلَى الْأَشْرَفِ ، وَعِنْدَ ذَلِكَ تَلُوحُ لَكَ شَمَّةٌ مِنْ كَيْفِيَّةِ عُرُوجِ الْأَرْوَاحِ الْمُشْرِقَةِ النُّورَانِيَّةِ الْإِلَهِيَّةِ وَنُزُولِهَا ، اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنْ أَهْلِهِ .
[ ص: 110 ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فِي قِرَاءَةِ
زَيْدٍ ( يَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا ) وَالتَّأْنِيثُ بِمَعْنَى الْآيَةِ .