الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                              قوله تعالى: والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه وأما سعة جهنم طولا وعرضا، فروى مجاهد عن ابن عباس ، قال: أتدرون ما سعة جهنم؟ قلنا: لا، قال: أجل والله ما تدرون أن ما بين شحمة [ ص: 224 ] أذن أحدهم وأنفه مسيرة سبعين خريفا تجري في أودية القيح والدم . قلنا: أنهار؟ قال: لا، بل أودية، ثم قال: أتدرون ما سعة جهنم؟ قلنا: لا، قال: حدثتني عائشة أنها سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قوله تعالى: والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه فأين الناس يومئذ؟ قال: "على جسر جهنم" خرجه الإمام أحمد ، وخرج النسائي والترمذي منه المرفوع وصححه الترمذي وخرجه الحاكم وقال صحيح الإسناد .

                                                                                                                                                                                              * * *

                                                                                                                                                                                              وقال - أي ابن الجوزي -: كان أبو القاسم بن السمرقندي يقول: إن أبا بكر بن الخاضبة كان يسمى ابن الفاعوس الحجري; لأنه كان يقول: الحجر الأسود يمين الله حقيقة .

                                                                                                                                                                                              قلت: إن صح عن ابن الفاعوس أنه كان يقول: الحجر الأسود يمين الله حقيقة، فأصل ذلك: أن طائفة من أصحابنا وغيرهم نفوا وقوع المجاز في القرآن، ولكن لا يعلم منهم من نفى المجاز في اللغة كقول أبي إسحاق الإسفرائيني . ولكن قد يسمع بعض صالحيهم إنكار المجاز في القرآن، فيعتقد إنكاره مطلقا .

                                                                                                                                                                                              ويؤيد ذلك: أن المتبادر إلى فهم أكثر الناس من لفظ الحقيقة والمجاز: المعاني والحقائق دون الألفاظ . [ ص: 225 ] فإذا قيل: "إن هذا مجاز" فهموا أنه ليس تحته معنى، ولا له حقيقة . فينكرون ذلك، وينفرون منه . ومن أنكر المجاز من العلماء فقد ينكر إطلاق اسم المجاز; لئلا يوهم هذا المعنى الفاسد، ويصير ذريعة لمن يريد حقائق الكتاب والسنة ومدلولاتهما . ويقول: غالب من تكلم بالحقيقة والمجاز هم المعتزلة ونحوهم من أهل البدع وتطرقوا بذلك إلى تحريف الكلم عن مواضعه، فيمنع من التسمية بالمجاز، يجعل جميع الألفاظ حقائق، ويقول: اللفظ إن دل بنفسه فهو حقيقة لذلك المعنى، وإن دل بقرينة فدلالته بالقرينة حقيقة للمعنى الآخر . فهو حقيقة في الحالين . وإن كان المعنى المدلول عليه مختلفا فحينئذ يقال: لفظ اليمين في قوله سبحانه وتعالى: والسماوات مطويات بيمينه حقيقة . وهو دال على الصفة الذاتية . ولفظ اليمين في الحديث المعروف: "الحجر الأسود يمين الله في الأرض" فمن صافحه فكأنما صافح الله عز وجل . وقيل: يمينه يراد به - مع هذه القرائن المحتفة به - محل الاستلام والتقبيل . وهو حقيقة في هذا المعنى في هذه الصورة، وليس فيه ما يوهم الصفة الذاتية أصلا، بل دلالته على معناه الخاص قطعية لا تحتمل النقيض بوجه، ولا تحتاج إلى تأويل ولا غيره . وإذا قيل: فابن الفاعوس لم يكن من أهل هذا الشأن - أعني: البحث عن مدلولات الألفاظ؟ قيل: ولا ابن الخاضبة كان من أهله، وإن كان محدثا . وإنما سمع من ابن [ ص: 226 ] الفاعوس، أو بلغه عنه إنكار أن يكون هذا مجازا، لما سمعه من إنكار لفظ المجاز، فحمله السامع لقصوره أو لهواه على أنه إذا كان حقيقة لزم أن يكون هو يد الرب عز وجل، التي هي صفته . وهذا باطل . والله أعلم .

                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية