الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            3052 - ( وعن عبادة بن الصامت { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وحوله عصابة من أصحابه بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ولا تعصوا في معروف فمن وفى منكم فأجره على الله ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له ومن أصاب من ذلك شيئا ثم ستره الله فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه فبايعناه على ذلك وفي لفظ فلا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق } ) .

                                                                                                                                            3053 - ( وعن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفسا فسأل عن أعلم أهل الأرض فدل على راهب فأتاه فقال إنه قد قتل تسعة وتسعين نفسا فهل له من توبة فقال لا فقتله فكمل به مائة ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدل على رجل عالم فقال إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة فقال نعم من يحول بينك وبين التوبة انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها أناسا يعبدون الله فاعبد الله معهم ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض [ ص: 63 ] سوء ، فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت ، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ، فقالت ملائكة الرحمة : جاء تائبا مقبلا فقبله الله ، وقالت ملائكة العذاب : إنه لم يعمل خيرا قط ، فأتاهم ملك في صورة آدمي فجعلوه بينهم ، فقال : قيسوا ما بين الأرضين ، فإلى أيهما كان أدنى فهو له ، فقاسوا فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد ، فقبضه ملائكة الرحمة } " متفق عليهما ) .

                                                                                                                                            3054 - ( وعن واثلة بن الأسقع قال : { أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في صاحب لنا أوجب ، يعني النار بالقتل ، فقال : أعتقوا عنه يعتق الله بكل عضو منه عضوا منه من النار } رواه أحمد وأبو داود ) .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            حديث واثلة أخرجه أيضا النسائي وابن حبان والحاكم قوله : ( وحوله عصابة ) بفتح اللام على الظرفية . والعصابة بكسر العين : الجماعة من العشرة إلى الأربعين ولا واحد لها من لفظها . وقد جمعت على عصائب وعصب قوله : ( بايعوني ) المبايعة هنا عبارة عن المعاهدة سميت بذلك تشبيها بالمعاوضة المالية كما في قوله تعالى: { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة } . قوله : { ولا تقتلوا أولادكم } قال محمد بن إسماعيل التيمي وغيره : خص القتل بالأولاد لأنه قتل وقطيعة رحم فالعناية بالنهي عنه آكد ولأنه كان شائعا فيهم وهو وأد البنات أو قتل البنين خشية الإملاق أو خصهم بالذكر لأنهم بصدد أن لا يدفعوا عن أنفسهم . قوله : ( ولا تأتوا ببهتان ) البهتان الكذب الذي يبهت سامعه وخص الأيدي والأرجل بالافتراء لأن معظم الأفعال يقع بهما إذا كانت هي العوامل والحوامل للمباشرة والسعي ، ولذا يسمون الصنائع الأيادي . وقد يعاقب الرجل بجناية قولية فيقال هذا بما كسبت يداك .

                                                                                                                                            ويحتمل أن يكون المراد لا تبهتوا الناس كفاحا وبعضكم شاهد بعضا كما يقال قلت كذا بين يدي فلان قاله الخطابي . وقد تعقب بذكر الأرجل . وأجاب الكرماني بأن المراد الأيدي وذكر الأرجل للتأكيد ومحصله أن ذكر الأرجل إن لم يكن مقتضيا فليس بمانع ، ويحتمل أن يكون المراد بما بين الأرجل والأيدي القلب لأنه هو الذي يترجم اللسان عنه فلذلك نسب إليه الافتراء . وقال أبو محمد بن أبي جمرة يحتمل أن يكون قوله { بين أيديهن } : أي في الحال . وقوله { وأرجلهن } أي في المستقبل لأن السعي من أفعال الأرجل .

                                                                                                                                            وقال غيره : أصل هذا كان في بيعة النساء وكنى به كما قال الهروي عن نسبة المرأة الولد الذي تزني به أو تلقطه إلى زوجها ، ثم [ ص: 64 ] لما استعمل هذا اللفظ في بيعة الرجال احتيج إلى حمله على غير ما ورد فيه أولا قوله ولا تعصوا في معروف هو ما عرف من الشارع حسنه نهيا وأمرا قال النووي يحتمل أن يكون المراد ولا تعصوني ولا أحدا ولي الأمر عليكم في المعروف فيكون التقييد بالمعروف متعلقا بشيء بعده وقال غيره نبه بذلك على أن طاعة المخلوق إنما تجب فيما كان غير معصية الله فهي جديرة بالتوقي في معصية الله قوله فمن وفى منكم أي ثبت على العهد ولفظ وفى بالتخفيف وفي رواية بالتشديد وهما بمعنى قوله فأجره على الله هذا على سبيل التفخيم لأنه لما ذكر المبالغة المقتضية لوجود العوض أثبت ذكر الأجر وقد وقع التصريح في رواية في الصحيحين بالعوض فقال بالجنة قوله { ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به } فهو أي العقاب كفارة له قال النووي عموم هذا الحديث مخصوص بقوله تعالى { إن الله لا يغفر أن يشرك به } فالمرتد إذا قتل على ارتداده لا يكون القتل كفارة له قال الحافظ وهذا بناء على أن قوله من ذلك شيئا يتناول جميع ما ذكر وهو ظاهر وقد قيل يحتمل أن يكون المراد ما ذكر بعد الشرك بقرينة أن المخاطب بذلك المسلمون فلا يدخل حتى يحتاج إلى إخراجه .

                                                                                                                                            ويؤيده رواية مسلم من طريق أبي الأشعث عن عبادة في هذا الحديث : ومن أتى منكم حدا إذ القتل على الشرك لا يسمى حدا ويجاب بأن خطاب المسلمين لا يمنع التحذير لهم من الإشراك وأما كون القتل على الشرك لا يسمى حدا فإن أراد لغة أو شرعا فممنوع وإن أراد عرفا فذلك غير نافع فالصواب ما قاله النووي وقال الطيبي الحق أن المراد بالشرك الشرك الأصغر وهو الرياء ويدل عليه تنكير شيئا أي شركا أيا ما كان وتعقب بأن عرف الشارع إذا أطلق الشرك إنما يريد به ما يقابل التوحيد وقد تكرر هذا اللفظ في الكتاب والأحاديث حيث لا يراد به إلا ذلك وقال القاضي عياض ذهب أكثر العلماء إلى أن الحدود كفارات واستدلوا بالحديث ومن العلماء من وقف لأجل حديث أبي هريرة الذي أخرجه الحاكم في المستدرك والبزار من رواية معمر عن ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { لا أدري الحدود كفارة لأهلها أم لا } .

                                                                                                                                            قال الحافظ وهو صحيح على شرط الشيخين . وقد أخرجه أحمد عن عبد الرزاق عن معمر وذكر الدارقطني أن عبد الرزاق تفرد بوصله وأن هشام بن يوسف رواه عن معمر فأرسله وقد وصله الحاكم من طريق آدم بن أبي ذئب فقويت رواية معمر قال القاضي عياض لكن حديث عبادة أصح إسنادا ويمكن الجمع بينهما أن يكون حديث أبي هريرة ورد أولا قبل أن يعلمه الله ثم أعلمه بعد ذلك وهذا جمع حسن لولا أن القاضي ومن تبعه جازمون بأن حديث عبادة المذكور كان بمكة ليلة العقبة [ ص: 65 ] لما بايع الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم البيعة الأولى بمنى وأبو هريرة إنما أسلم بعد ذلك بسبع سنين عام خيبر فكيف يكون حديثه متقدما ويمكن أن يجاب بأن أبا هريرة لم يسمعه من النبي صلى الله عليه وسلم وإنما سمعه من صحابي آخر كان سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم قديما ، ولم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك أن الحدود كفارة كما سمع .

                                                                                                                                            ولا يخفى ما في هذا من التعسف على أنه يبطله أن أبا هريرة صرح بسماعه من النبي صلى الله عليه وسلم ، وأن الحدود لم تكن نزلت إذ ذاك ، ورجح الحافظ أن حديث عبادة المذكور لم يقع ليلة العقبة وإنما وقع في ليلة العقبة ما ذكره ابن إسحاق وغيره من أهل المغازي : { أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمن حضر من الأنصار : أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم ، فبايعوه على ذلك وعلى أن يرحل إليهم هو وأصحابه } وقد ثبت في الصحيح من حديث عبادة أنه قال : { بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره } الحديث ساقه البخاري في كتاب الفتن من صحيحه ، وأخرج أحمد والطبراني من وجه آخر عن عبادة أنها جرت له قصة مع أبي هريرة عند معاوية بالشام فقال : يا أبا هريرة إنك لم تكن معنا إذ { بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة والنشاط والكسل وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وعلى أن نقول بالحق ولا نخاف في الله لومة لائم ، وعلى أن ننصر رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدم علينا يثرب فنمنعه مما نمنع به أنفسنا وأزواجنا وأبناءنا ولنا الجنة } الحديث .

                                                                                                                                            قال الحافظ : والذي يقوي أن هذه البيعة المذكورة في حديث عبادة وقعت بعد فتح مكة بعد أن نزلت الآية التي في الممتحنة وهي قوله تعالى: { يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك } ونزول هذه الآية متأخر بعد قصة الحديبية بلا خلاف والدليل على ذلك ما عند البخاري في كتاب الحدود في حديث عبادة هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بايعهم قرأ الآية كلها ، وعنده في تفسير الممتحنة من هذا الوجه قال : قرأ النساء . ولمسلم من طريق معمر عن الزهري قال : " فتلا علينا آية النساء قال : { أن لا يشركن بالله شيئا } وللطبراني من هذا الحديث : { بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما بايع عليه النساء يوم الفتح } ولمسلم : { أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أخذ على النساء } .

                                                                                                                                            فهذه أدلة ظاهرة في أن هذه البيعة إنما صدرت بعد نزول الآية ، بل بعد صدور البيعة بل بعد فتح مكة وذلك بعد إسلام أبي هريرة بمدة . وقد أطال الحافظ في الفتح الكلام في كتاب الإيمان على هذا ، فمن رام الاستكمال فليراجعه . واعلم أن عبادة بن الصامت لم يتفرد برواية هذا المعنى بل روى ذلك علي بن أبي طالب وهو في الترمذي وصححه الحاكم ، وفيه : { من أصاب ذنبا فعوقب به في الدنيا فالله أكرم من أن يثني العقوبة على عبده في الآخرة } وهو عند الطبراني بإسناد حسن ، ولفظه : [ ص: 66 ] { من أصاب ذنبا أقيم عليه حد ذلك الذنب فهو كفارة له } . وللطبراني عن ابن عمر مرفوعا { : ما عوقب رجل على ذنب إلا جعله الله كفارة لما أصاب من ذلك الذنب } .

                                                                                                                                            قال ابن التين : يريد بقوله : " فعوقب به " أي بالقطع في السرقة والجلد أو الرجم في الزنا ، وأما قتل الولد فليس له عقوبة معلومة إلا أن يريد قتل النفس فكنى عنه .

                                                                                                                                            وفي رواية الصنابحي عن عبادة في هذا الحديث : { ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق } . ولكن قوله في حديث الباب : فعوقب به ، هو أعم من أن تكون العقوبة حدا أو تعزيرا قال ابن التين : وحكي عن القاضي إسماعيل وغيره أن قتل القاتل إنما هو إرداع لغيره ، وأما في الآخرة فالطلب للمقتول قائم لأنه لم يصل إليه حق . قال الحافظ : بل وصل إليه حق ، وأي حق فإن المقتول ظلما تكفر عنه ذنوبه بالقتل كما ورد في الخبر الذي صححه ابن حبان أن السيف محاء للخطايا ، وروى الطبراني عن ابن مسعود قال : إذا جاء القتل محا كل شيء . وللطبراني أيضا عن الحسن بن علي نحوه . وللبزار عن عائشة مرفوعا { لا يمر القتل بذنب إلا محاه فلولا القتل ما كفرت } .

                                                                                                                                            ولو كان حد القتل إنما شرع للإرداع فقط لم يشرع العفو عن القاتل . ويستفاد من الحديث أن إقامة الحد كفارة للذنب ولو لم يتب المحدود . قال في الفتح : وهو قول الجمهور . وقيل : لا بد من التوبة وبذلك جزم بعض التابعين وهو قول المعتزلة ووافقهم ابن حزم ، ومن المفسرين البغوي وطائفة يسيرة . قوله : ( فهو إلى الله ) قال المازري : فيه رد على الخوارج الذين يكفرون بالذنوب ، ورد على المعتزلة الذين يوجبون تعذيب الفاسق إذا مات بلا توبة ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا بأنه تحت المشيئة ولم يقل لا بد أن يعذبه . وقال الطيبي : فيه إشارة إلى الكف عن الشهادة بالنار على أحد أو بالجنة لأحد إلا من ورد النص فيه بعينه . قوله : ( إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه ) يشمل من تاب من ذلك ومن لم يتب ، وإلى ذلك ذهبت طائفة ، وذهب الجمهور إلى أن من تاب لا يبقى عليه مؤاخذة ومع ذلك فلا يأمن من مكر الله لأنه لا اطلاع له هل قبلت توبته أم لا .

                                                                                                                                            وقيل : يفرق بين ما يجب فيه الحد وما لا يجب . قوله : ( انطلق إلى أرض كذا وكذا . . . إلخ ) قال العلماء : في هذا استحباب مفارقة التائب للمواضع التي أصاب بها الذنوب ، والأخدان المساعدين له على ذلك ومقاطعتهم ما داموا على حالهم ، وأن يستبدل بهم صحبة أهل الخير والصلاح والمتعبدين الورعين . قوله : ( نصف الطريق ) هو بتخفيف الصاد أي بلغ نصفها كذا قال النووي . قوله : ( فقال : قيسوا ما بين الأرضين ) هذا محمول على أن الله تعالى أمرهم عند اشتباه الأمر عليهم واختلافهم فيه أن يحكموا رجلا يمر بهم فمر الملك في صورة رجل فحكم بذلك . وقد استدل بهذا الحديث على قبول توبة القاتل عمدا . قال النووي : هذا مذهب [ ص: 67 ] أهل العلم وإجماعهم ، ولم يخالف أحد منهم إلا ابن عباس ، وأما ما نقل عن بعض السلف من خلاف هذا فمراد قائله الزجر والتورية ، لا أنه يعتقد بطلان توبته ، وهذا الحديث وإن كان شرع من قبلنا وفي الاحتجاج به خلاف فليس هذا موضع الخلاف وإنما موضعه إذا لم يرد شرعنا بموافقته وتقريره فإن ورد كان شرعا لنا بلا شك ، وهذا وقد ورد شرعنا به ، وذلك قوله تعالى: { والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس } إلى قوله تعالى: { إلا من تاب } الآية ، وأما قوله تعالى: { ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها } فقال النووي في شرح مسلم : إن الصواب في معناها أن جزاءه جهنم فقد يجازى بذلك .

                                                                                                                                            وقد يجازى بغيره . وقد لا يجازى بل يعفى عنه فإن قتل عمدا مستحلا بغير حق ولا تأويل فهو كافر مرتد يخلد في جهنم بالإجماع ، وإن كان غير مستحل بل معتقدا تحريمه فهو فاسق عاص مرتكب كبيرة جزاؤها جهنم خالدا فيها ، لكن تفضل الله تعالى وأخبر أنه لا يخلد من مات موحدا فيها فلا يخلد هذا ولكن قد يعفى عنه ولا يدخل النار أصلا . وقد لا يعفى عنه بل يعذب كسائر عصاة الموحدين ثم يخرج معهم إلى الجنة ولا يخلد في النار ، وقال : فهذا هو الصواب في معنى الآية ، ولا يلزم من كونه يستحق أن يجازى بعقوبة مخصوصة أن يتحتم ذلك الجزاء ، وليس في الآية إخبار بأنه يخلد في جهنم وإنما فيها أنها جزاؤه : أي يستحق أن يجازى بذلك . وقيل : وردت الآية في رجل بعينه . وقيل : المراد بالخلود طول المدة لا الدوام . وقيل : معناها هذا جزاؤه إن جازاه ، وهذه الأقوال كلها ضعيفة أو فاسدة لمخالفتها حقيقة لفظ الآية ، ثم قال : الصواب ما قدمناه ، ا . هـ . انتهى كلام النووي . وينبغي أن نتكلم أولا في معنى الخلود ، ثم نبين ثانيا الجمع بين هذه الآية وبين ما خالفها ، فنقول : معنى الخلود الثبات الدائم . قال في الكشاف عند الكلام على قوله تعالى: { ولهم فيها أزواج مطهرة وهم فيها خالدون } ما لفظه : والخلد : الثبات الدائم والبقاء اللازم الذي لا ينقطع .

                                                                                                                                            قال الله تعالى : { وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون } وقال امرؤ القيس :

                                                                                                                                            ألا انعم صباحا أيها الطلل البالي وهل ينعمن من كان في العصر الخالي وهل ينعمن إلا سعيد مخلد
                                                                                                                                            قليل الهموم لا يبيت على حال

                                                                                                                                            وقال في القاموس : وخلد خلودا دام . ا هـ ، وأما بيان الجمع بين هذه الآية وما خالفها فنقول : لا نزاع أن قوله تعالى: { ومن يقتل مؤمنا } من صيغ العموم الشاملة للتائب وغير التائب بل للمسلم والكافر والاستثناء المذكور في آية الفرقان ، أعني قوله تعالى: { إلا من تاب } بعد قوله تعالى: { ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق } مختص [ ص: 68 ] بالتائبين فيكون مخصصا لعموم قوله تعالى: { ومن يقتل مؤمنا } إما على ما هو المذهب الحق من أنه ينبني العام على الخاص مطلقا تقدم أو تأخر أو قارن فظاهر ، وإما على مذهب من قال : إن العام المتأخر ينسخ الخاص المتقدم فإذا سلمنا تأخر قوله تعالى: { ومن يقتل مؤمنا } على آية الفرقان فلا نسلم تأخرها عن العمومات القاضية بأن القتل مع التوبة من جملة ما يغفره الله كقوله تعالى : { يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا } وقوله تعالى: { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } .

                                                                                                                                            ومن ذلك ما أخرجه مسلم عن أبي هريرة : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { : من تاب قبل طلوع الشمس من مغربها تاب الله عليه } وما أخرجه الترمذي وصححه من حديث صفوان بن عسال قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { : باب من قبل المغرب يسير الراكب في عرضه أربعين أو سبعين سنة : خلقه الله تعالى يوم خلق السموات والأرض مفتوح للتوبة لا يغلق حتى تطلع الشمس من مغربها } . وأخرج الترمذي أيضا عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { : إن الله عز وجل يقبل توبة العبد ما لم يغرغر } . وأخرج مسلم من حديث أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { : إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها } .

                                                                                                                                            ونحو هذه الأحاديث مما يطول تعداده . لا يقال : إن هذه العمومات مخصصة بقوله تعالى : { ومن يقتل مؤمنا متعمدا } الآية ; لأنا نقول : الآية أعم من وجه وهو شمولها للتائب وغيره ، وأخص من وجه وهو كونها في القاتل ، وهذه العمومات أعم من وجه وهو شمولها لمن كان ذنبه القتل ولمن كان ذنبه غير القتل ، وأخص من وجه وهو كونها في التائب ، وإذا تعارض عمومان لم يبق إلا الرجوع إلى الترجيح . ولا شك أن الأدلة القاضية بقبول التوبة مطلقا أرجح لكثرتها ، وهكذا أيضا يقال : إن الأحاديث القاضية بخروج الموحدين من النار وهي متواترة المعنى كما يعرف ذلك من له إلمام بكتب الحديث ، تدل على خروج كل موحد سواء كان ذنبه القتل أو غيره ، والآية القاضية بخروج من قتل نفسا هي أعم من أن يكون القاتل موحدا أو غير موحد ، فيتعارض عمومان وكلاهما ظني الدلالة ، ولكن عموم آية القتل قد عورض بما سمعته بخلاف أحاديث خروج الموحدين ، فإنها إنما عورضت بما هو أعم منها مطلقا كآيات الوعيد للعصاة الدالة على الخلود الشاملة للكافر والمسلم ، ولا حكم لهذه المعارضة أو بما هو أخص منها مطلقا كالأحاديث القاضية بتخليد بعض أهل المعاصي نحو من قتل نفسه ، وهو يبني العام على الخاص ، وبما قررناه يلوح لك انتهاض القول بقبول توبة القاتل إذا تاب وعدم خلوده في النار إذا لم يتب . ويتبين لك أيضا أنه لا حجة فيما احتج به ابن عباس من أن آية الفرقان [ ص: 69 ] مكية منسوخة بقوله تعالى : { ومن يقتل مؤمنا متعمدا } الآية كما أخرج ذلك عنه البخاري ومسلم وغيرهما .

                                                                                                                                            وكذلك لا حجة له فيما أخرجه النسائي والترمذي عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { يجيء المقتول متعلقا بالقاتل يوم القيامة ناصيته ورأسه بيده وأوداجه تشخب دما يقول : يا رب قتلني هذا حتى يدنيه من العرش وفي رواية للنسائي : فيقول : أي رب سل هذا فيم قتلني ؟ } لأن غاية ذلك وقوع المنازعة بين يدي الله عز وجل ، وذلك لا يستلزم أخذ التائب بذلك الذنب ولا تخليده في النار على فرض عدم التوبة ، والتوبة النافعة ههنا هي الاعتراف بالقتل عند الوارث إن كان له وارث أو السلطان إن لم يكن له وارث ، والندم على ذلك الفعل والعزم على ترك العود إلى مثله ، لا مجرد الندم والعزم بدون اعتراف وتسليم للنفس أو الدية إن اختارها مستحقها ، لأن حق الآدمي لا بد فيه من أمر زائد على حقوق الله وهو تسليمه أو تسليم عوضه بعد الاعتراف به .

                                                                                                                                            فإن قلت : فعلام تحمل حديث أبي هريرة وحديث معاوية المذكورين في أول الباب ، فإن الأول يقضي بأن القاتل أو المعين على القتل يلقى الله مكتوبا بين عينيه الإياس من الرحمة ، والثاني يقضي بأن ذنب القتل لا يغفره الله . قلت : هما محمولان على عدم صدور التوبة من القاتل ، والدليل على هذا التأويل ما في الباب من الأدلة القاضية بالقبول عموما وخصوصا ، ولو لم يكن من ذلك إلا حديث الرجل القاتل للمائة الذي تنازعت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب . وحديث عبادة بن الصامت المذكور قبله فإنهما يلجئان إلى المصير إلى ذلك التأويل ، ولا سيما مع ما قدمنا من تأخر تاريخ حديث عبادة ، مع كون الحديثين في الصحيحين بخلاف حديث أبي هريرة ومعاوية . وأيضا في حديث معاوية نفسه ما يرشد إلى هذا التأويل فإنه جعل الرجل القاتل عمدا مقترنا بالرجل الذي يموت كافرا ، ولا شك أن الذي يموت كافرا مصرا على ذنبه غير تائب منه من المخلدين في النار ، فيستفاد من هذا التقييد أن التوبة تمحو ذنب الكفر فيكون ذلك القرين الذي هو القتل أولى بقبولها . وقد قال العلامة الزمخشري في الكشاف : إن هذه الآية يعني قوله : { ومن يقتل مؤمنا } فيها من التهديد والإيعاد والإبراق والإرعاد أمر عظيم وخطب غليظ . قال : ومن ثم روي عن ابن عباس ما روي من أن توبة قاتل المؤمن عمدا غير مقبولة .

                                                                                                                                            وعن سفيان : كان أهل العلم إذا سئلوا قالوا : لا توبة له ، وذلك محمول منهم على الاقتداء بسنة الله في التغليظ والتشديد ، وإلا فكل ذنب ممحو بالتوبة ، وناهيك بمحو الشرك دليلا ، ثم ذكر حديث : { لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم } وهو عند النسائي من حديث بريدة ، وعند ابن ماجه من حديث البراء ، وعند النسائي أيضا من حديث ابن عمر . وأخرجه أيضا الترمذي .

                                                                                                                                            ، وأما حديث واثلة بن الأسقع الذي ذكره المصنف في { الرجل الذي أوجب [ ص: 70 ] على نفسه النار بالقتل فأمرهم صلى الله عليه وسلم أن يعتقوا عنه } فهو من أدلة قبول توبة القاتل عمدا ، ولا بد من حمله على التوبة ، فإذا تاب القاتل عمدا فإنه يشرع له التكفير لهذا الحديث ، وهو دليل على ثبوت الكفارة في قتل العمد كما ذهب إليه الشافعي وأصحابه . ومن أهل البيت القاسم والهادي والمؤيد بالله والإمام يحيى . وقد حكي في البحر عن الهادي عدم الوجوب في العمد ولكنه نص في الأحكام والمنتخب على الوجوب فيه ، وهذا إذا عفي عن القاتل أو رضي الوارث بالدية .

                                                                                                                                            وأما إذا اقتص منه فلا كفارة عليه ، بل القتل كفارته لحديث عبادة المذكور في الباب وما أخرجه أبو نعيم في المعرفة : { أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : القتل كفارة } وهو من حديث خزيمة بن ثابت ، وفي إسناده ابن لهيعة . قال الحافظ : لكنه من حديث ابن وهب عنه فيكون حسنا . ورواه الطبراني في الكبير عن الحسن بن علي موقوفا عليه ، وأما الكفارة في قتل الخطإ فهي واجبة بالإجماع وهو نص القرآن الكريم .




                                                                                                                                            الخدمات العلمية