الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            أبواب الديات باب دية النفس وأعضائها ومنافعها 3055 - ( عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن كتابا ، وكان في كتابه أن من اعتبط مؤمنا قتلا عن بينة فإنه قود ، إلا أن يرضى أولياء المقتول ، وأن في النفس الدية مائة من الإبل ، وأن في الأنف إذا أوعب جدعه الدية ، وفي اللسان الدية ، وفي الشفتين الدية وفي البيضتين الدية ، وفي الذكر الدية ، وفي الصلب الدية ، وفي العينين الدية ، وفي الرجل الواحدة نصف الدية ، وفي المأمومة ثلث الدية ، وفي الجائفة ثلث الدية ، وفي المنقلة خمسة عشر من الإبل ، وفي كل إصبع من أصابع اليد ، والرجل عشرا من الإبل ، وفي السن خمسا من الإبل ، وفي الموضحة خمسا من الإبل وأن الرجل يقتل بالمرأة ، وعلى أهل الذهب ألف دينار } . رواه النسائي ، وقال : وقد روى هذا الحديث يونس عن الزهري مرسلا ) .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الحديث أخرجه أيضا ابن خزيمة وابن حبان وابن الجارود والحاكم والبيهقي موصولا . وأخرجه أيضا أبو داود في المراسيل ، وقد صححه جماعة من أئمة الحديث منهم أحمد والحاكم وابن حبان والبيهقي ، .

                                                                                                                                            وقد قدمنا بسط الكلام عليه واختلاف الحفاظ فيه في باب قتل الرجل بالمرأة . قوله : ( من اعتبط ) بعين مهملة فمثناة فوقية فموحدة فطاء مهملة : وهو القتل بغير سبب موجب ، وأصله من اعتبط الناقة : إذا ذبحها من غير مرض ولا [ ص: 71 ] داء ، فمن قتل مؤمنا كذلك وقامت عليه البينة بالقتل وجب عليه القود إلا أن يرضى أولياء المقتول بالدية أو يقع منهم العفو

                                                                                                                                            قوله : ( وإن في النفس الدية مائة من الإبل ) الاقتصار على هذا النوع من أنواع الدية يدل على أنه في الأصل الوجوب كما ذهب إليه الشافعي ومن أهل البيت القاسم بن إبراهيم ، قالا : وبقية الأصناف كانت مصالحة لا تقديرا شرعيا . وقال أبو حنيفة وزفر والشافعي في قول له : بل هي من الإبل للنص ، ومن النقدين تقويما إذ هما قيم المتلفات وما سواهما صلح . وذهب جماعة من أهل العلم إلى أن الدية من الإبل مائة ، ومن البقر مائتان ومن الغنم ألفان ، ومن الذهب ألف مثقال . واختلفوا في الفضة فذهب الهادي والمؤيد بالله إلى أنها عشرة آلاف درهم ، وذهب مالك والشافعي في قول له إلى أنها اثنا عشر ألف درهم .

                                                                                                                                            قال زيد بن علي والناصر : أو مائتا حلة ، الحلة : إزار ورداء أو قميص وسراويل ، وستأتي أدلة هذه الأقوال في باب أجناس الدية ، وسيأتي أيضا الخلاف في صفة الإبل وتنوعها

                                                                                                                                            قوله : ( وإن في الأنف إذا أوعب جدعه الدية ) بضم الهمزة من أوعب على البناء للمجهول أي قطع جميعه .

                                                                                                                                            وفي هذا دليل على أنه يجب في قطع الأنف جميعه الدية ، قال في البحر : فصل : والأنف مركبة من قصبة ومارن وأرنبة وروثة ، وفيها الدية إذا استؤصلت من أصل القصبة إجماعا ثم قال : فرع : قال الهادي : وفي كل واحد من الأربع حكومة . وقال الناصر والفقهاء : بل في المارن الدية وفي بعضه حصته .

                                                                                                                                            وأجاب عن ذلك بأن المارن وحده لا يسمى أنفا وإنما الدية في الأنف . ورد بما رواه الشافعي عن طاوس أنه قال : عندنا في كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم { وفي الأنف إذا قطع مارنه مائة من الإبل } .

                                                                                                                                            وأخرج البيهقي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال { : قضى النبي صلى الله عليه وسلم إذا جدعت ثندوة الأنف بنصف العقل خمسون من الإبل وعدلها من الذهب والورق }

                                                                                                                                            قال في النهاية : أراد بالثندوة هنا روثة الأنف وهي طرفه ومقدمه . ا هـ . وإنما قال : أراد بالثندوة هنا لأنها في الأصل لحم الثدي أو أصله على ما في القاموس وفي القاموس أيضا أن المارن : الأنف أو طرفه أو ما لان منه ، وفيه أن الأرنبة طرف الأنف ، وفيه أيضا أن الروثة طرف الأرنبة . قال في البحر : فرع : فإن قطع الأرنبة وهي الغضروف الذي يجمع المنخرين ففيه الدية إذ هو زوج كالعينين وفي الوترة حكومة ، وهي الحاجزة بين المنخرين وفي إحداهما نصف الدية ، وفي الحاجز حكومة فإن قطع المارن والقصبة أو المارن والجلدة التي تحته لزمت دية وحكومة . ا هـ . والوترة هي الوتيرة .

                                                                                                                                            قال في القاموس : وهي حجاب ما بين المنخرين

                                                                                                                                            قوله : ( وفي اللسان الدية ) فيه دليل على أن الواجب في اللسان إذا قطع جميعه الدية . وقد حكى صاحب البحر الإجماع على ذلك ، قال : فإن جنى ما أبطل كلامه فدية ، فإن أبطل بعضه [ ص: 72 ] فحصته ، ويعتبر بعدد الحروف . وقيل : بعدد حروف اللسان فقط وهي ثمانية عشر حرفا لا بما عداها . واختلف في لسان الأخرس إذا قطعت فذهب الأكثر إلى أنها يجب فيها حكومة فقط . وذهب النخعي إلى أنها يجب فيها دية . قوله : ( وفي الشفتين الدية ) إلى هذا ذهب جمهور أهل العلم ، وقيل : إنه مجمع عليه ، قال في البحر : وحدهما من تحت المنخرين إلى منتهى الشدقين في عرض الوجه ولا فضل لإحداهما على الأخرى عند أبي حنيفة والشافعي والناصر والهادوية .

                                                                                                                                            وذهب زيد بن ثابت إلى أن دية العليا ثلث والسفلى ثلثان ، ومثله في المنتخب ، قال في البحر : إذ منافع السفلى أكثر للجمال والإمساك يعني للطعام والشراب وأجاب عنه بقوله صلى الله عليه وسلم : { وفي الشفتين الدية } ولم يفصل

                                                                                                                                            ولا يخفى أن غاية ما في هذا أنه يجب في المجموع دية وليس ظاهرا في أن لكل واحدة نصف دية حتى يكون ترك الفصل منه صلى الله عليه وسلم مشعرا بذلك ، ولا شك أن في السفلى نفعا زائدا على النفع الكائن في العليا ولو لم يكن إلا الإمساك للطعام والشراب على فرض الاستواء في الجمال . قوله : ( وفي البيضتين الدية ) في رواية : " وفي الأنثيين الدية " ومعناهما ومعنى البيضتين واحد كما في الصحاح والضياء والقاموس . وذكر في الغيث أن الأنثيين هما الجلدتان المحيطتان بالبيضتين فينظر في أصل ذلك فإن كتب اللغة على خلافه . وقد قيل : إن وجوب الدية في البيضتين مجمع عليه . وذهب الجمهور إلى أن الواجب في كل واحد نصف الدية

                                                                                                                                            وحكي في البحر عن علي عليه السلام أن في اليسرى ثلثا الدية إذ النسل منها وفي اليمنى ثلثها ، وروي نحو ذلك عن سعيد بن المسيب . قوله : ( وفي الذكر الدية ) هذا مما لا يعرف فيه خلاف بين أهل العلم ، وظاهر الدليل عدم الفرق بين ذكر الشاب والشيخ والصبي كما صرح به الشافعي والإمام يحيى .

                                                                                                                                            وأما ذكر العنين والخصي فذهب الجمهور إلى أن فيه حكومة ، وذهب البعض إلى أن فيه الدية إذ لم يفصل الدليل . قوله : ( وفي الصلب الدية ) قال في القاموس : الصلب بالضم وبالتحريك عظم من لدن الكاهل إلى العجب ، ا هـ . ولا أعرف خلافا في وجوب الدية فيه . وقد قيل : إن المراد بالصلب هنا هو ما في الجدول المنحدر من الدماغ لتفريق الرطوبة في الأعضاء لا نفس المتن بدليل ما رواه ابن المنذر عن علي عليه السلام أنه قال : في الصلب الدية إذا منع من الجماع هكذا في ضوء النهار

                                                                                                                                            والأولى حمل الصلب في كلام الشارع على المعنى اللغوي ؟ وعلى فرض صلاحية قول علي لتقييد ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم فليس من لازمه تفسير الصلب بغير المتن ، بل غايته أن يعتبر مع كسر المتن زيادة ، وهي الإفضاء إلى منع الجماع لا مجرد الكسر مع إمكان الجماع . قوله : ( وفي العينين الدية ) هذا مما لا أعرف فيه خلافا بين أهل العلم ، .

                                                                                                                                            وكذلك يعرف الخلاف بينهم في أن الواجب في كل عين نصف الدية . وإنما اختلفوا [ ص: 73 ] في عين الأعور فحكي في البحر عن الأوزاعي والنخعي والعترة والحنفية والشافعية أن الواجب فيها نصف دية إذ لم يفصل الدليل . وحكي أيضا عن علي عليه السلام وعمر وابن عمر والزهري ومالك والليث وأحمد وإسحاق أن الواجب فيها دية كاملة لعماه بذهابها

                                                                                                                                            وأجاب عنه بأن الدليل لم يفصل وهو الظاهر ، ثم حكي أيضا عن العترة والشافعية والحنفية أنه يقتص من الأعور إذا أذهب عين من له عينان ، وخالف في ذلك أحمد بن حنبل والظاهر ما قاله الأولون . قوله : ( وفي الرجل الواحدة نصف الدية ) هذا أيضا مما لا أعرف فيه خلافا وهكذا لا خلاف في أن في اليدين دية كاملة .

                                                                                                                                            قال في البحر : وحد موجب الدية مفصل الساق ، واليدان كالرجلين بلا خلاف ، والحد الموجب للدية من الكوع كما حكاه صاحب البحر عن العترة وأبي حنيفة والشافعي ، فإن قطعت اليد من المنكب أو الرجل من الركبة ففي كل واحدة منهما نصف دية وحكومة عند أبي حنيفة ومحمد والقاسمية والمؤيد بالله ، وعند أبي يوسف والشافعي في قول له إنه يدخل الزائد على الكوع ومفصل الساق في دية اليد والرجل فلا تجب حكومة لذلك

                                                                                                                                            قوله : ( وفي المأمومة ثلث الدية ) هي الجناية البالغة أم الدماغ وهو الدماغ أو الجلدة الرقيقة التي عليه كما حكاه صاحب القاموس . وإلى إيجاب ثلث الدية فقط في المأمومة ذهب علي وعمر والعترة والحنفية والشافعية .

                                                                                                                                            وذهب بعض أصحاب الشافعي إلى أنه يجب مع ثلث الدية حكومة لغشاوة الدماغ . وحكى ابن المنذر الإجماع على أنه يجب في المأمومة ثلث الدية إلا عن مكحول فإنه قال : يجب الثلث مع الخطإ والثلثان مع العمد . قوله : ( وفي الجائفة ثلث الدية ) قال في القاموس : الجائفة هي الطعنة التي تبلغ الجوف أو تنفذه ثم فسر الجوف بالبطن . وقال في البحر هي ما وصل جوف العضو من ظهر أو صدر أو ورك أو عنق أو ساق أو عضد مما له جوف وهكذا في الانتصار وفي الغيث أنها مما وصل الجوف وهو من ثغرة النحر إلى المثانة ، ا هـ . وهذا هو المعروف عند أهل العلم والمذكور في كتب اللغة

                                                                                                                                            وإلى وجوب ثلث الدية في الجائفة ذهب الجمهور وحكي في نهاية المجتهد الإجماع على ذلك . قوله : ( وفي المنقلة خمسة عشر من الإبل ) في رواية : " خمس عشرة " قال في القاموس هي الشجة التي تنقل منها فراش العظام وهي قشور تكون على العظم دون اللحم ، وفي النهاية أنها التي تخرج صغار العظام وتنتقل عن أماكنها .

                                                                                                                                            وقيل : التي تنقل العظم أي تكسره . وقد حكى صاحب البحر القول بإيجاب خمس عشرة ناقة عن علي وزيد بن ثابت والعترة والفريقين يعني الشافعية والحنفية . قوله : ( وفي كل إصبع من أصابع اليد والرجل عشر من الإبل ) هذا مذهب الأكثرين

                                                                                                                                            وروي عن عمر أنه كان يجعل في الخنصر ستا من الإبل وفي البنصر تسعا ، وفي الوسطى عشرا وفي السبابة اثنتي عشرة ، وفي الإبهام [ ص: 74 ] ثلاث عشرة ، ثم روي عنه الرجوع عن ذلك .

                                                                                                                                            وروي عن مجاهد أنه قال : في الإبهام خمس عشرة ، وفي التي تليها عشر ، وفي الوسطى عشر ، وفي التي تليها ثمان ، وفي الخنصر سبع ، وهو مردود بحديث الباب وبما سيأتي قريبا من حديث أبي موسى وعمرو بن شعيب . وذهبت الشافعية والحنفية والقاسمية إلى أن في كل أنملة ثلث دية الأصبع إلا أنملة الإبهام ففيها النصف . وقال مالك : بل الثلث .

                                                                                                                                            قوله : ( وفي السن خمس من الإبل ) ذهب إلى هذا جمهور العلماء

                                                                                                                                            وظاهر الحديث عدم الفرق بين الثنايا والأنياب والضروس لأنه يصدق على كل منها أنه سن .

                                                                                                                                            وروي عن علي أنه يجب في الضرس عشر من الإبل .

                                                                                                                                            وروي عن عمر وابن عباس أنه يجب في كل ثنية خمسون دينارا وفي الناجذ أربعون .

                                                                                                                                            وفي الناب ثلاثون ، وفي كل ضرس خمسة وعشرون . وروى مالك والشافعي عن عمر أن في كسر الضرس جملا ، قال الشافعي : وبه أقول لأني لا أعلم له مخالفا من الصحابة ، وفي قول للشافعي : في كل سن خمس من الإبل ما لم يزد على دية النفس ، وإلا كفت في جميعها دية ، وأجاب عنه في البحر بأنه خلاف الإجماع . ورد بأنه لا وجه للحكم بمخالفة الإجماع لاختلاف الناس في دية الأسنان ، وسيأتي قريبا ما يدل على أن جميع الأسنان مستوية

                                                                                                                                            . قوله : ( وفي الموضحة خمس من الإبل ) هي التي تكشف العظم بلا هشم . وقد ذهب إلى إيجاب الخمس في الموضحة الشافعية والحنفية والعترة وجماعة من الصحابة .

                                                                                                                                            وروي عن مالك أن الموضحة إن كانت في الأنف أو اللحي الأسفل فحكومة ، وإلا فخمس من الإبل . وذهب سعيد بن المسيب إلى أنه يجب في الموضحة عشر الدية وذلك عشر من الإبل ، وتقدير أرش الموضحة المذكور في الحديث إنما هو في موضحة الرأس والوجه لا موضحة ما عداهما من البدن فإنها على النصف من ذلك كما هو المختار لمذهب الهادوية وكذلك الهاشمة والمنقلة والدامية وسائر الجنايات . وحكي في البحر عن الإمام يحيى أن الموضحة والهاشمة والمنقلة إنما أرشها المقدر في الرأس وفيها في غيره حكومة . وقيل : بل في جميع البدن لحصول معناها حيث وقعت

                                                                                                                                            قال في البحر : وهو الأقرب للمذهب لكن ينسب من دية ذلك العضو قياسا على الرأس ، ففي الموضحة نصف عشر دية ما هي فيه ، ا هـ . وحكي في البحر أيضا في موضع آخر عن الإمام يحيى والقاسمية وأحد قولي الشافعي أن في الموضحة ونحوها في غير الرأس حكومة إذ لم يقدر الشرع أرشها إلا فيه .

                                                                                                                                            وحكى الشافعي في قول له : إن الحكم واحد . قال الإمام يحيى : وهو غير بعيد إذ لم يفصل الخبر ، ا هـ . وهو يستفاد أيضا من العموم المستفاد من تحلية الموضحة بالألف واللام . وأخرج البيهقي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن أبا بكر وعمر قالا : في الموضحة في الوجه والرأس سواء . وأخرج البيهقي أيضا عن سليمان بن يسار نحو ذلك

                                                                                                                                            قوله : [ ص: 75 ] وإن الرجل يقتل بالمرأة ) قد تقدم الكلام على هذا مبسوطا . قوله : ( وعلى أهل الذهب ألف دينار ) فيه دليل لمن جعل الذهب من أنواع الدية الشرعية كما سلف . .




                                                                                                                                            الخدمات العلمية