الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              الفصل الثالث الوقت الذي يجوز للمجتهد الحكم بالعموم فيه .

              فإن قال قائل : إذا لم يجز الحكم بالعموم يتبين انتفاء دليل الخصوص ، فمتى يتبين له ذلك ؟ وهل يشترط أن يعلم انتفاء المخصص قطعا أو يظنه ظنا ؟ قلنا : لا خلاف في أنه لا يجوز المبادرة إلى الحكم بالعموم قبل البحث عن الأدلة العشرة التي أوردناها في المخصصات ; لأن العموم دليل بشرط انتفاء المخصص ، والشرط بعد لم يظهر ، وكذلك كل دليل يمكن أن يعارضه دليل فهو دليل بشرط السلامة عن المعارضة فلا بد من معرفة الشرط ، وكذلك الجمع بعلة مخيلة بين الفرع ، والأصل دليل بشرط أن لا ينقدح فرق فعليه أن يبحث عن الفوارق جهده أو ينفيها ثم يحكم بالقياس ، وهذا الشرط لا يحصل إلا بالبحث .

              ولكن المشكل أنه إلى متى يجب البحث ، فإن المجتهد ، وإن استقصى أمكن أن يشذ عنه دليل لم يعثر عليه ، فكيف يحكم مع إمكانه ؟ أو كيف ينحسم سبيل إمكانه ؟ وقد انقسم الناس في هذا على ثلاثة مذاهب : فقال قوم : يكفيه أن يحصل غلبة الظن بالانتفاء عند الاستقصاء في البحث ، كالذي يبحث عن متاع في بيت فيه أمتعة كثيرة فلا يجده ، فيغلب على ظنه عدمه ، وقائل يقول : لا بد من اعتقاد جازم ، وسكون نفس بأنه لا دليل ، أما إذا كان يشعر بجواز دليل يشذ عنه ، ويحيك في صدره إمكانه فكيف يحكم بدليل يجوز أن يكون الحكم به حراما ؟ نعم إذا اعتقد جزما ، وسكنت نفسه إلى الدليل جاز له الحكم كان مخطئا عند الله أو مصيبا ، كما لو سكنت نفسه إلى القبلة فصلى إليها .

              وقال قوم : لا بد أن يقطع بانتفاء الأدلة ، وإليه ذهب القاضي ; ; لأن الاعتقاد الجزم من غير دليل قاطع سلامة قلب ، وجهل ، بل العالم الكامل يشعر نفسه بالاحتمال حيث لا قاطع ، ولا تسكن نفسه ، والمشكل على هذا طريق تحصيل القطع بالنفي ، وقد ذكر فيه القاضي مسلكين :

              أحدهما : أنه إذا بحث في مسألة قتل المسلم بالذمي عن مخصصات قوله : { لا يقتل مؤمن بكافر } مثلا ، فقال : هذه مسألة طال فيها خوض العلماء ، وكثر بحثهم ، فيستحيل في العادة أن يشذ عن جميعهم مدركها ، وهذه المدارك المنقولة عنهم علمت بطلانها فاقطع بأن لا مخصص لها .

              وهذا فاسد من وجهين : أحدهما : أنه حجر على الصحابة أن يتمسكوا بالعموم في كل واقعة لم يكثر الخوض فيها ، ولم يطل البحث عنها ، ولا [ ص: 257 ] شك في عملهم مع جواز التخصيص بل مع جواز نسخ لم يبلغهم كما حكموا بصحة المخابرة بدليل عموم إحلال البيع ، حتى روى رافع بن خديج النهي عنها .

              الثاني : أنه بعد طول الخوض لا يحصل اليقين بل إن سلم أنه لا يشذ المخصص عن جميع العلماء فمن أين لقي جميع العلماء ، ومن أين عرف أنه بلغه كلام جميعهم ؟ فلعل منهم من تنبه لدليله ، وما كتبه في تصنيفه ، ولا نقل عنه ، وإن أورده في تصنيفه فلعله لم يبلغه ، وعلى الجملة لا يظن بالصحابة فعل المخابرة مع اليقين بانتفاء النهي ، وكان النهي حاصلا ، ولم يبلغهم بل كان الحاصل إما ظنا ، وإما سكون نفس .

              المسلك الثاني : قال القاضي : لا يبعد أن يدعي المجتهد اليقين ، وإن لم يدع الإحاطة بجميع المدارك ، إذ يقول لو كان الحكم خاصا لنصب الله تعالى عليه دليلا للمكلفين ، ولبلغهم ذلك ، وما خفي عليهم ، وهذا أيضا من الطراز الأول فإنه لو اجتمعت الأمة على شيء أمكن القطع بأن لا دليل يخالفه إذ يستحيل إجماعهم على الخطإ ، أما في مسألة الخلاف كيف يتصور ذلك ، والمختار عندنا أن تيقن الانتفاء إلى هذا الحد لا يشترط ، وأن المبادرة قبل البحث لا تجوز بل عليه تحصيل علم ، وظن باستقصاء البحث ; أما الظن فبانتفاء الدليل في نفسه ، وأما القطع فبانتفائه في حقه بتحقيق عجز نفسه عن الوصول إليه بعد بذل غاية وسعه ، فيأتي بالبحث الممكن إلى حد يعلم أن بحثه بعد ذلك سعي ضائع ، ويحس من نفسه بالعجز يقينا ، فيكون العجز عن العثور على الدليل في حقه يقينا ، وانتفاء الدليل في نفسه مظنون ، وهو الظن بالصحابة في المخابرة ، ونظائرها ، وكذلك الواجب في القياس ، والاستصحاب ، وكل ما هو مشروط بنفي دليل آخر

              التالي السابق


              الخدمات العلمية