الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
9 - " آدم في السماء الدنيا؛ تعرض عليه أعمال ذريته؛ ويوسف في السماء الثانية؛ وابنا الخالة يحيى وعيسى في السماء الثالثة؛ وإدريس في السماء الرابعة؛ وهارون في السماء الخامسة؛ وموسى في السماء السادسة؛ وإبراهيم في السماء السابعة " ؛ ابن مردويه ؛ عن أبي سعيد .

التالي السابق


(آدم) ؛ أبو البشر؛ من " أديم الأرض" ؛ أي: ظاهر وجهها؛ سمي به لخلقه منه؛ أو من " الأدمة" ؛ وهي السمرة؛ ولا يشكل ببراعة جماله؛ وأن حسن يوسف ثلث حسنه؛ لأن سمرته بين البياض والحمرة؛ قيل: اشتقاقه يؤيد أنه عربي؛ ومنع بأن توافق اللغتين غير ممتنع؛ وبأنه لا دلالة على أن الاشتقاق من خواص كلام العرب؛ ورد بأن الأصل عدم التوافق؛ واطراد الاشتقاق؛ وهو - وإن صح تكلمه بكل لسان - لكن الغالب بالسرياني؛ كما تدل عليه أسامي أولاده؛ (في السماء الدنيا) ؛ أي: القريبة؛ بروحه؛ وزعم أنه بجسمه - يأتي رده - و" السماء" : اسم جنس؛ يطلق على الواحد والمتعدد؛ ويشمل سائر الأجسام العلوية؛ والمراد هنا هذه المظلة؛ وهي - كما قال الحراني وجمع - أشرف من الأرض من جهة العلو الذي لا يرام؛ والجوهر البالغ في الإحكام؛ والزينة البديعة النظام؛ المنبثة عن المصالح الجسام؛ وكثرة المنافع والأعلام؛ (تعرض عليه أعمال) ؛ جمع " عمل" ؛ قال الحراني : هو فعل بني على علم؛ أو زعم؛ (ذريته) ؛ أي: نسله؛ " فعلية" ؛ من " الذر" ؛ بمعنى: " التفريق" ؛ أو " فعلولة" ؛ أو " فعيلة" ؛ من " الذرء" ؛ بمعنى: " الخلق" ؛ ولا مانع من عرض المعاني؛ وإن كانت أعراضا؛ لأنها في عالم الملكوت متشكلة بأشكال تخصها؛ بحيث ترى؛ وتنطق؛ وإنما تمتنع رؤيتها في هذا العالم؛ فلا ضرورة لتأويل الأعمال بصحفها؛ ومعنى العرض أنه يراهم بمواضعهم؛ لكنه يرى السعداء من الجانب الأيمن؛ وغيرهم من الجانب الأيسر؛ فالتقييد للنظر؛ لا للمنظور؛ فلا يلزم من رؤيته لأرواح [ ص: 48 ] الكفار؛ وهو في السماء؛ أن تفتح لهم أبوابها؛ ولا لأرواح المؤمنين؛ وفيهم الأحياء؛ أن تنزع من أجسادها؛ وتصعد؛ ثم تعاد للأبدان؛ ومن فوائد العرض الشفاعة فيمن أذن له؛ ولكونه أول الأنبياء كان في أول السماوات؛ وفي رواية: " إذا نظر إلى جهة يمينه ضحك؛ وإذا نظر إلى جهة شماله بكى" ؛ (ويوسف في السماء الثانية) ؛ قال في الكشاف: اسم عبراني؛ وقيل: عربي؛ وليس بصحيح؛ لأنه لو كان عربيا لانصرف؛ لخلوه عن سبب آخر سوى التعريف؛ انتهى؛ قال ابن الكمال: ومن اللطائف الاتفاقية أن " الأسف" ؛ لغة: الحزن؛ و" الأسيف" : العبد؛ وقد اتفق اجتماعهما في يوسف؛ (وابنا الخالة يحيى) ؛ اسم أعجمي على الأظهر في الكشاف؛ أو عربي؛ ومنع صرفه للعلمية والوزن؛ قال الحراني : سمي بصفة الدوام؛ مع أنه قتل؛ إشعارا بوفاء حقيقة الروحانية الحياتية دائما؛ لا يطرقه طارق موت الظاهر؛ حيث قتل شهيدا؛ ( وعيسى ) ؛ اسم معرب؛ أصله بالعبرية " يسوع" ؛ وهو غير مشتق؛ وزعم أنه من " العيس" - وهو بياض يخالطه صفرة - منع بأن الاشتقاق العربي لا يدخل المعجم؛ عند الأكثر؛ وفيه ما مر؛ قال ابن السكيت : ويقال: ابنا خالة؛ لا ابنا عمة؛ وابنا عم؛ لا ابنا خال؛ لأن ابني الخالة أم كل منهما خالة الآخر لزوما؛ بخلاف ابني العمة؛ واعلم أنه قد يشكل جعل عيسى ويحيى ابني خالة؛ بأن امرأة عمران - وهي " حنة" ؛ جدة عيسى - إنما هي أخت " إيشاع" ؛ أم يحيى؛ وأجيب بأن الأخت كثيرا ما تطلق على بنت الأخت؛ فبهذا الاعتبار جعلهما ابني خالة؛ وقيل: كانت إيشاع أخت حنة من الأم؛ وأخت مريم من الأب؛ على أن عمران نكح أولا أم حنة؛ فولدت له إيشاع؛ ثم نكح حنة؛ بناء على حل نكاح الربائب في شرعهم؛ فولدت مريم؛ فكانت إيشاع أخت مريم من الأب لأب؛ وخالتها من الأم؛ لأنها أخت حنة من أمها؛ (في السماء الثالثة؛ وإدريس في السماء الرابعة) ؛ اسم أعجمي غير مشتق؛ ولا منصرف؛ وزعم أنه سمي به لكثرة دراسته؛ أبطله في الكشاف؛ بأنه لو كان " إفعيل" ؛ من " الدرس" ؛ لم يكن فيه إلا سبب واحد؛ وهو العلمية؛ وكان منصرفا؛ فمنع صرفه دليل العجمة؛ واسمه " خنوخ" ؛ أو " أخنوخ" ؛ كما في القاموس؛ وغيره؛ (وهارون في السماء الخامسة؛ وموسى في السماء السادسة) ؛ غير منصرف؛ للعجمة والعلمية؛ و" موسى" ؛ بالعبري: ماء وشجر؛ سمي به لأنه وجد بين ماء وشجر؛ لما ألقته أمه فيه؛ فهو اسم اقتضاه حاله؛ وقيل: هو من " ماس" ؛ إذا تبختر في مشيته؛ ولا منافاة بين هذا وبين خبر أنه رأى موسى قائما يصلي في قبره؛ فقد يكون رآه في مسيره قائما؛ ثم عرج به كالمصطفى؛ فرآه ثم؛ وسرعة الانتقال لهؤلاء كلمح البصر؛ بل هو أقرب؛ وسيجيء لهذا مزيد تنبيه؛ ولا بينه وبين خبر الشيخين أنه رأى يحيى وعيسى في الثانية؛ لاحتمال الانتقال؛ وأما الجواب بالتعدد فرد بتوقفه على توقيف.

(وإبراهيم في السماء السابعة) ؛ زاد في رواية: " مسندا ظهره إلى البيت المعمور" ؛ وذكر في رواية أنه رآهم كذلك في السماء؛ وفي أخرى أنه لقيهم فيها كذلك؛ وخص هؤلاء الأنبياء بالذكر واللقاء؛ لما ذكروه أن من رأى نبيا في النوم فإن رؤياه تؤذن بما يشبه حال النبي المرئي؛ من شدة؛ أو رخاء؛ أو غيرهما؛ فأول من لقي آدم؛ الذي أخرجه عدوه إبليس من الجنة؛ وذلك شبيه بأول أحوال المصطفى؛ حين أخرجه أعداؤه من حرم الله؛ وجواره؛ والجامع المشقة وكراهة فراق الوطن؛ ثم رجوعه لما منه خرج؛ ثم يوسف في الثانية؛ المؤذن بحالة ثانية تشبه حالة يوسف؛ لأن يوسف ظفر بإخوته بعدما أخرجوه؛ فصفح عنهم؛ والمصطفى ظفر يوم بدر بأقاربه؛ كالعباس؛ وعقيل ؛ فعفا عنهم؛ ثم يحيى وعيسى في الثالثة؛ وهما الممتحنان باليهود؛ فصار نبينا - صلى الله عليه وسلم - إلى حالة ثالثة؛ كحالهما في الامتحان باليهود؛ فكذبوه وآذوه وظاهروا عليه بعد سكنه بالمدينة؛ ثم سموه بالشاه؛ فلم تزل تلك الأكلة تعاوده حتى قطعت أبهره؛ ثم إدريس في الرابعة؛ وهو المكان الذي سماه الله " عليا " ؛ وهو أول من خط بالقلم؛ فكان مؤذنا بحالة رابعة لنبينا؛ من علو الشأن؛ ورفعة المكان؛ حتى كتب بالقلم إلى الملوك بما أخافهم؛ وأزعجهم؛ فهذا مقام علي؛ وخط بالقلم كنحو ما أوتي إدريس؛ وهارون في الخامسة؛ وهو المحبب في قومه؛ فآذن بحب قريش وقاطبة [ ص: 49 ] العرب له؛ بعد بغضهم؛ وموسى في السادسة؛ لأن حاله يشبه حاله حين أمر بغزو الشام؛ فظهر على الجبابرة التي فيها؛ وإبراهيم في السابعة؛ إشارة إلى دخوله مكة في السابعة من الهجرة؛ وأن آخر أحوال نبينا حجه إلى البيت؛ وإبراهيم هو الداعي إلى الحج؛ والرافع لقواعد الكعبة المحجوجة؛ ذكره السهيلي وغيره.

وقال ابن أبي جمرة : حكمة رؤية آدم في السماء الدنيا أنه أول الأنبياء؛ وأول الآباء؛ فكان الأول في الأولى؛ لتأنيس البنوة بالأبوة؛ ويوسف في الثانية؛ لأن هذه الأمة تدخل الجنة على صورته؛ ويحيى وعيسى في الثالثة؛ لأنهما أقرب الأنبياء عهدا به؛ وإدريس في الرابعة؛ لقوله (تعالى): ورفعناه مكانا عليا ؛ والرابعة من السبع وسط معتدل؛ وهارون لقربه من أخيه؛ وموسى أرفع منه لكونه الكليم؛ وإبراهيم في السابعة؛ لأن منزلة الخليل أرفع المنازل؛ وقال القونوي: العالم السفلي مرآة للآثار والقوى والخواص المودعة في العالم العلوي؛ وكذا العالم العلوي؛ على اختلاف طبقاته مرآة تتعين في كل طبقة منه نتائج القوى والآثار السفلية التي تركبت منه؛ وانعجنت في نشأة أهل هذا العالم؛ ثم انفصلت وعادت إليه بصورة غير صورتها الأولى؛ سيما نتائج الصفات والأفعال والتوجهات الصادرة من الإنسان الذي هو نسخة الكل؛ ومرآة تنطبع فيها قوى كل عالم؛ وآثار كل فلك؛ وتوجه كل ملك؛ وتتفاوت نسبته إلى كل فلك؛ وعالم؛ بحسب غلبة ما نعجن من القوى والخواص فيه؛ من ذلك الفلك في أول تكوينه في أثناء توجهه؛ وترقياته؛ بعلمه وعمله وأخلاقه واستعداداته المستفادة بواسطة نشأته؛ وبحسب حظه من الاعتدال الخصيص بالكمل؛ وإلى ذلك أشار المصطفى بقوله: " آدم في السماء الدنيا" ؛ الذي هو ملك القمر؛ ويوسف في الثانية؛ إلى آخره؛ فهو إخبار عن صور مناسباتهم بذلك الفلك؛ وتعريف مراتب مظاهرهم الناتجة من أعمالهم وأخلاقهم وصفاتهم المكتسبة مما انعجن فيهم من قوى الأفلاك وتوجهات الأملاك؛ وحصلت الغلبة لبعض تلك القوى والآثار على بعض؛ في كل منهم؛ حال اجتماعهما فيه؛ وحيازة نشأته لها؛ وإلا فمن البين أن الأرواح غير متحيزة؛ فكيف يوصف سكانها في السماوات؟!

( ابن مردويه ) ؛ في تفسيره؛ (عن أبي سعيد ) ؛ سعد بن مالك بن سنان بن عبيد بن ثعلبة بن عبيد بن الأبجر - واسمه " خدرة" - الأنصاري الخدري؛ بضم الخاء المعجمة؛ نسبة إلى " خدرة" ؛ المذكور؛ وزعم بعضهم أن " خدرة" ؛ أم الأبجر؛ استصغر يوم " أحد" ؛ وغزا مع المصطفى غزوة؛ بايعه على ألا تأخذه في الله لومة لائم؛ وإسناده ضعيف؛ لكن المتن صحيح؛ فإنه قطعة من حديث الإسراء؛ الذي خرجه الشيخان عن أنس ؛ لكن فيه خلف في الترتيب.



الخدمات العلمية