الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين

ذكر الله تعالى في هذه الآية صنفا دون الصنف الأول، فألحقهم بهم برحمته ومنه، فهؤلاء هم التوابون. وروي في سبب هاتين الآيتين: أن الصحابة قالوا: يا رسول الله، كانت بنو إسرائيل أكرم على الله منا حين كان المذنب منهم يصبح وعقوبته مكتوبة على باب داره، فأنزل الله هذه الآية توسعة ورحمة وعوضا من ذلك الفعل ببني إسرائيل. وروي أن إبليس بكى حين نزلت هذه الآية. وروى أبو بكر الصديق رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من عبد يذنب ذنبا ثم يقوم فيتطهر ويصلي ركعتين ويستغفر إلا غفر له".

وقوله "والذين" عطف جملة ناس على جملة أخرى، وليس "الذين" بنعت كرر معه واو العطف، لأن تلك الطبقة الأولى تنزه عن الوقوع في الفواحش، والفاحشة هنا: صفة لمحذوف أقيمت الصفة مقامه، التقدير: فعلوا فعلة فاحشة، وهو [ ص: 360 ] لفظ يعم جميع المعاصي، وقد كثر اختصاصه بالزنى، حتى فسر السدي هذه الآية بالزنى، وقال جابر بن عبد الله لما قرأها: زنى القوم ورب الكعبة; وقال إبراهيم النخعي: الفاحشة من الظلم، والظلم من الفاحشة، وقال قوم: الفاحشة في هذه الآية إشارة إلى الكبائر، وظلم النفس إشارة إلى الصغائر.

و"ذكروا الله" معناه: بالخوف من عقابه والحياء منه، إذ هو المنعم المتفضل; ومن هذا قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "رحم الله صهيبا لو لم يخف الله لم يعصه". واستغفروا معناه: طلبوا الغفران، واللام معناها: لأجل ذنوبهم ، ثم اعترض أثناء الكلام قوله تعالى: ومن يغفر الذنوب إلا الله ، اعتراضا مرققا للنفس، داعيا إلى الله، مرجيا في عفوه إذا رجع إليه، وجاء اسم الله مرفوعا بعد الاستثناء والكلام موجب، حملا على المعنى، إذ هو بمعنى: وما يغفر الذنوب إلا الله.

وقوله تعالى: "ولم يصروا" الإصرار معناه: اعتزام الدوام على الأمر وترك الإقلاع عنه، ومنه صر الدنانير أي: الربط عليها، ومنه قول أبي السمال قعنب العدوي: علم الله أنها مني صرى، . يريد: عزيمة،. فالإصرار اعتزام البقاء على الذنب، ومنه قول النبي عليه السلام: "لا توبة مع إصرار" وقال أيضا: "ما أصر من استغفر".

واختلفت عبارة المفسرين في الإصرار; فقال قتادة: هو الذي يمضي قدما في الذنب لا تنهاه مخافة الله،. وقال الحسن: إتيان العبد الذنب هو الإصرار حتى يموت، وقال مجاهد: "لم يصروا" معناه: لم يمضوا، وقال السدي: الإصرار: هو ترك الاستغفار والسكوت عنه مع الذنب.

وقوله تعالى: "وهم يعلمون" قال السدي: معناه وهم يعلمون أنهم قد أذنبوا، وقال ابن إسحاق: معناه: وهم يعلمون بما حرمت عليهم، وقال آخرون: معناه: وهم يعلمون أن باب التوبة مفتوح لهم، وقيل: المعنى: وهم يعلمون أني أعاقب على الإصرار.

[ ص: 361 ] ثم شرك تعالى الطائفتين المذكورتين في قوله: "أولئك جزاؤهم"... الآية، وهذه تؤذن بأن الله تعالى أوجب على نفسه بهذا الخبر الصادق قبول توبة التائب، وليس يجب عليه تعالى من جهة العقل شيء، بل هو بحكم الملك لا معقب لأمره.

وقوله: ونعم أجر العاملين بمنزلة قوله: ونعم الأجر، لأن نعم وبئس تطلب الأجناس المعرفة أو ما أضيف إليها وليست هذه الآية بمنزلة قوله تعالى: ساء مثلا القوم لأن نعم وبئس تطلب الأجناس المعرفة أو ما أضيف إليها، وليست هذه الآية بمنزلة قوله تعالى: ساء مثلا القوم لأن المثل هنا أضيف إلى معهود لا إلى جنس، فلذلك قدره أبو علي: ساء المثل مثل القوم، ويحتمل أن يكون مثل القوم مرتفعا بـ "ساء" ولا يضمر شيء.

التالي السابق


الخدمات العلمية