الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              [ ص: 258 ] الفصل الثاني في الشروط وهي ثلاثة :

              الأول : الاتصال ، فمن قال : اضرب المشركين ، ثم قال بعد ساعة إلا زيدا ، لم يعد هذا كلاما بخلاف ما لو قال : أردت بالمشركين قوما دون قوم ، ونقل عن ابن عباس أنه جوز تأخير الاستثناء ، ولعله لا يصح عنه النقل إذ لا يليق ذلك بمنصبه ، وإن صح فلعله أراد به إذا نوى الاستثناء أولا ثم أظهر نيته بعده فيدين بينه ، وبين الله فيما نواه ، ومذهبه أن ما يدين فيه العبد فيقبل ظاهرا أيضا فهذا له وجه . أما تجويز التأخير لو أجيز عليه دون هذا التأويل ، فيرد عليه اتفاق أهل اللغة على خلافه ; لأنه جزء من الكلام يحصل به الإتمام ، فإذا انفصل لم يكن إتماما كالشرط ، وخبر المبتدإ ، فإنه لو قال : اضرب زيدا إذا قام فهذا شرط ، فلو أخر ثم قال : بعد شهر : إذا قام ، لم يفهم هذا الكلام فضلا عن أن يصير شرطا ، وكذلك قوله : إلا زيدا بعد شهر لا يفهم ، وكذلك لو قال : زيد ثم قال : بعد شهر : قام لم يعد هذا خبرا أصلا .

              ومن ههنا قال قوم : يجوز التأخير لكن بشرط أن يذكر عند قوله : " إلا زيدا " أني أريد الاستثناء ، حتى يفهم ، وهذا أيضا لا يغني فإن هذا لا يسمى استثناء . احتجوا بجواز تأخير النسخ ، وأدلة التخصيص ، وتأخير البيان .

              فنقول : إن جاز القياس في اللغة ، فينبغي أن يقاس عليه الشرط ، والخبر ، ولا ذاهب إليه ; لأنه لا قياس في اللغات ، وكيف يشبه بأدلة التخصيص ، وقوله إلا زيدا يخرج عن كونه مفهوما فضلا عن أن يكون إتماما للكلام الأول

              والشرط الثاني : أن يكون المستثنى من جنس المستثنى منه ، كقوله : رأيت الناس إلا زيدا ، ولا تقول : رأيت الناس إلا حمارا . أو تستثني جزءا مما دخل تحت اللفظ كقوله : رأيت الدار إلا بابها ، ورأيت زيدا إلا وجهه ، وهذا استثناء من غير الجنس ; لأن اسم الدار لا ينطلق على الباب ، ولا اسم زيد على وجهه بخلاف قوله : مائة ثوب إلا ثوبا ، وعن هذا قال قوم : ليس من شرط الاستثناء أن يكون من الجنس قال الشافعي : لو قال : علي مائة درهم إلا ثوبا صح ، ويكون معناه إلا قيمة ثوب ، ولكن إذا رد إلى القيمة فكأنه تكلف رده إلى الجنس .

              وقد ورد الاستثناء من غير الجنس كقوله تعالى : { فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس } ، ولم يكن من الملائكة فإنه قال : { إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه } ، وقال تعالى { وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ } استثنى الخطأ من العمد ، وقال تعالى : { فإنهم عدو لي إلا رب العالمين } ، وقال : { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة } ، وقال تعالى { وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى } ، وهذا الاستثناء ليس فيه معنى التخصيص ، والإخراج إذ المستثنى ما كان ليدخل تحت اللفظ أصلا ، ومن معتاد كلام العرب : ما في الدار رجل إلا امرأة ، وما له ابن إلا ابنة ، وما رأيت أحدا إلا ثورا ، وقال شاعرهم :

              وبلدة ليس بها أنيس إلا اليعافير وإلا العيس

              ، وقال آخر :

              ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم     بهن فلول من قراع الكتائب

              [ ص: 259 ] وقد تكلف قوم عن هذا كله جوابا فقالوا : ليس هذا استثناء حقيقة بل هو مجاز ، وهذا خلاف اللغة فإن " إلا " في اللغة للاستثناء ، والعرب تسمي هذا استثناء ، ولكن تقول : هو استثناء من غير الجنس ، وأبو حنيفة رحمه الله جوز استثناء المكيل من الموزون ، وعكسه ، ولم يجوز استثناء غير المكيل ، والموزون منهما في الأقارير ، وجوزه الشافعي رحمه الله .

              ، والأولى التجويز في الأقارير ; لأنه إذا صار معتادا في كلام العرب وجب قبوله لانتظامه ، نعم اسم الاستثناء عليه مجاز أو حقيقة ؟ وهذا فيه نظر ، واختار القاضي رحمه الله أنه حقيقة . ، والأظهر عندي أنه مجاز ; ; لأن الاستثناء من الثني تقول : ثنيت زيدا عن رأيه ، وثنيت العنان ، فيشعر الاستثناء بصرف الكلام عن صوبه الذي كان يقتضيه سياقه ، فإذا ذكر ما لا دخول له في الكلام الأول لولا الاستثناء أيضا فما صرف الكلام ، ولا ثناه عن وجه استرساله ، فتسميته استثناء تجوز باللفظ عن موضعه فتكون " إلا " في هذا الموضع بمعنى " لكن " .

              الشرط الثالث : أن لا يكون مستغرقا ، فلو قال لفلان علي عشرة إلا عشرة لزمته العشرة ; لأنه رفع الإقرار ، والإقرار لا يجوز رفعه ، وكذلك كل منطوق به لا يرفع ، ولكن يتمم بما يجري مجرى الجزء من الكلام ، وكما أن الشرط جزء من الكلام فالاستثناء جزء ، وإنما لا يكون رفعا بشرط أن يبقى للكلام معنى .

              أما استثناء الأكثر فقد اختلفوا فيه ، والأكثرون على جوازه قال القاضي رحمه الله : وقد نصرنا في مواضع جوازه ، والأشبه أن لا يجوز ; لأن العرب تستقبح استثناء الأكثر ، وتستحمق قول القائل : رأيت ألفا إلا تسعمائة وتسعة وتسعين ، بل قال كثير من أهل اللغة : لا يستحسن استثناء عقد صحيح بأن يقول : عندي مائة إلا عشرة أو عشرة إلا درهما بل مائة إلا خمسة ، وعشرة إلا دانقا ، كما قال تعالى : { فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما } فلو بلغ المائة لقال فلبث فيهم تسعمائة ، ولكن لما كان كسرا استثناه . قال ، ولا وجه لقول من قال : لا ندري استقباحهم اطراح لهذا الكلام عن لغتهم أو هو كراهة ، واستثقال ؟ لأنه إذا ثبت كراهتهم ، وإنكارهم ثبت أنه ليس من لغتهم ، ولو جاز في هذا لجاز في كل ما أنكروه ، وقبحوه من كلامهم .

              احتجوا بأنه لما جاز استثناء الأقل جاز استثناء الأكثر ، وهذا قياس فاسد ، كقول القائل : إذا جاز استثناء البعض جاز استثناء الكل ، ولا قياس في اللغة . ثم كيف يقاس ما كرهوه ، وأنكروه على ما استحسنوه ؟ واحتجوا بقوله تعالى : { قم الليل إلا قليلا نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه } ، ولا فرق بين استثناء النصف والأكثر فإنه ليس بأقل وقال الشاعر :

              أدوا التي نقصت تسعين من مائة     ثم ابعثوا حكما بالحق قوالا

              ، والجواب

              أن قوله تعالى : { قم الليل إلا قليلا نصفه } أي : قم نصفه ، وليس باستثناء ، وقول الشاعر ليس باستثناء ، إذ يجوز أن تقول : أسقطت تسعين من جملة المائة ; هذا ما ذكره القاضي ، والأولى عندنا أن هذا استثناء صحيح ، وإن كان مستكرها ، فإذا قال : علي عشرة إلا تسعة فلا يلزمه باتفاق الفقهاء إلا درهم ، ولا سبب له إلا أنه استثناء صحيح ، وإن كان قبيحا ، كقوله علي عشرة إلا تسع سدس ربع درهم ، فإن هذا قبيح لكن يصح ، وإنما المستحسن استثناء الكسر ، وأما قوله : عشرة إلا أربعة فليس بمستحسن بل [ ص: 260 ] ربما يستنكر أيضا ، لكن الاستنكار على الأكثر أشد ، وكلما ازداد قلة ازداد حسنا .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية