الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              [ ص: 184 ] المسألة الثانية

              كل دليل شرعي إما أن يكون قطعيا ، أو ظنيا ، فإن كان قطعيا ، فلا إشكال في اعتباره ، كأدلة وجوب الطهارة من الحدث والصلاة والزكاة والصيام والحج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجتماع الكلمة والعدل ، وأشباه ذلك ، وإن كان ظنيا فإما أن يرجع إلى أصل قطعي أو لا ، فإن رجع إلى قطعي فهو معتبر أيضا ، وإن لم يرجع وجب التثبت فيه ولم يصح إطلاق القول بقبوله ولكنه قسمان :

              قسم يضاد أصلا قطعيا ، وقسم لا يضاده ولا يوافقه ، فالجميع أربعة أقسام .

              فأما الأول ، فلا يفتقر إلى بيان .

              وأما الثاني ، وهو الظني الراجع إلى أصل قطعي فإعماله أيضا ظاهر ، وعليه عامة إعمال أخبار الآحاد فإنها بيان للكتاب لقوله تعالى : وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم [ النحل : 44 ]

              ومثل ذلك ما جاء في الأحاديث من صفة الطهارة الصغرى والكبرى والصلاة والحج ، وغير ذلك مما هو بيان لنص الكتاب .

              [ ص: 185 ] وكذلك ما جاء من الأحاديث في النهي عن جملة من البيوع والربا ، وغيره من حيث هي راجعة إلى قوله تعالى : وأحل الله البيع وحرم الربا [ البقرة : 275 ]

              وقوله تعالى : لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل [ البقرة : 188 ] الآية . إلى سائر أنواع البيانات المنقولة بالآحاد ، أو التواتر إلا أن دلالتها ظنية ، ومنه أيضا قوله : - عليه الصلاة والسلام - : لا ضرر ولا ضرار ، فإنه داخل تحت أصل قطعي في هذا المعنى ، فإن الضرر والضرار مبثوث منعه في الشريعة كلها في وقائع جزئيات ، وقواعد كليات كقوله تعالى : ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا [ البقرة : 231 ]

              ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن [ الطلاق : 6 ]

              لا تضار والدة بولدها [ البقرة : 233 ] .

              ومنه النهي عن التعدي على النفوس والأموال والأعراض ، وعن الغصب والظلم وكل ما هو في المعنى إضرار ، وضرار ، ويدخل تحته الجناية على [ ص: 186 ] النفس ، أو العقل ، أو النسل ، أو المال فهو معنى في غاية العموم في الشريعة لا مراء فيه ولا شك ، وإذا اعتبرت أخبار الآحاد وجدتها كذلك .

              وأما الثالث ، وهو الظني المعارض لأصل قطعي ولا يشهد له أصل قطعي فمردود بلا إشكال ، ومن الدليل على ذلك أمران :

              أحدهما : أنه مخالف لأصول الشريعة ، ومخالف أصولها لا يصح; لأنه ليس منها ، وما ليس من الشريعة كيف يعد منها .

              والثاني : أنه ليس له ما يشهد بصحته ، وما هو كذلك ساقط الاعتبار ، وقد مثلوا هذا القسم في المناسب الغريب بمن أفتى بإيجاب شهرين متتابعين [ ص: 187 ] [ ص: 188 ] ابتداء على من ظاهر من امرأته ولم يأت الصيام في الظهار إلا لمن لم يجد رقبة .

              وهذا القسم على ضربين :

              أحدهما : أن تكون مخالفته للأصل قطعية ، فلا بد من رده .

              والآخر أن تكون ظنية إما بأن يتطرق الظن من جهة الدليل الظني ، وإما من جهة كون الأصل لم يتحقق كونه قطعيا ، وفي هذا الموضع مجال للمجتهدين ولكن الثابت في الجملة أن مخالفة الظني لأصل قطعي يسقط اعتبار الظني على الإطلاق ، وهو مما لا يختلف فيه

              والظاهري وإن ظهر من أمره ببادئ الرأي عدم المساعدة فيه فمذهبه راجع في الحقيقة إلى المساعدة على هذا الأصل لاتفاق الجميع على أن الشريعة لا اختلاف فيها ولا تناقض ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا [ النساء : 82 ] .

              وإذا ثبت هذا فالظاهري لا تناقض عنده في ورود نص مخالف لنص آخر ، أو لقاعدة أخرى .

              أما على اعتبار المصالح ، فإنه يزعم أن في المخالف مصلحة ليست في الآخر علمناها ، أو جهلناها ، وأما على عدم اعتبارها [ ص: 189 ] فأوضح ، فإن للشارع أن يأمر ، وينهى كيف شاء ، فلا تناقض بين المتعارضين على كل تقدير .

              فإذا تقرر هذا ، فقد فرضوا في كتاب الأخبار مسألة مختلفا فيها ترجع إلى الوفاق في هذا المعنى فقالوا : خبر الواحد إذا كملت شروط صحته هل يجب عرضه على الكتاب أم لا ؟

              فقال الشافعي : لا يجب; لأنه لا تتكامل شروطه إلا وهو غير مخالف للكتاب ، وعند عيسى بن أبان يجب محتجا بحديث في هذا المعنى ، وهو قوله : إذا روي لكم حديث فاعرضوه على كتاب الله ، فإن وافق فاقبلوه ، وإلا فردوه .

              [ ص: 190 ] فهذا الخلاف كما ترى راجع إلى الوفاق ، وسيأتي تقرير ذلك في دليل السنة إن شاء الله تعالى .

              وللمسألة أصل في السلف الصالح ، فقد ردت عائشة رضي الله تعالى عنها حديث : إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه بهذا الأصل نفسه [ ص: 191 ] لقوله تعالى : ألا تزر وازرة وزر أخرى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى [ النجم : 38 ، 39 ]

              وردت حديث رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه ليلة الإسراء لقوله تعالى : لا تدركه الأبصار [ الأنعام : 103 ] [ ص: 192 ] وإن كان عند غيرها غير مردود لاستناده إلى أصل آخر لا يناقض الآية ، وهو ثبوت رؤية الله تعالى في الآخرة بأدلة قرآنية ، وسنية تبلغ القطع ولا فرق في صحة الرؤية بين الدنيا والآخرة .

              وردت هي وابن عباس خبر أبي هريرة في غسل اليدين قبل إدخالهما في الإناء استنادا إلى أصل مقطوع به ، وهو رفع الحرج ، وما لا طاقة به عن الدين ، فلذلك قالا : فكيف يصنع بالمهراس ؟ [ ص: 193 ] [ ص: 194 ] وردت أيضا خبر ابن عمر في الشؤم ، وقالت : إنما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث عن أقوال الجاهلية; لمعارضته الأصل القطعي أن الأمر كله لله ، وأن شيئا من الأشياء لا يفعل شيئا ولا طيرة ولا عدوى .

              ولقد اختلفوا على عمر بن الخطاب حين خرج إلى الشام فأخبر أن الوباء قد وقع بها ، فاستشار المهاجرين والأنصار فاختلفوا عليه إلا مهاجرة الفتح فإنهم اتفقوا على رجوعه ، فقال أبو عبيدة : أفرارا من قدر الله ؟ فهذا استناد في رأي اجتهادي إلى أصل قطعي ، قال عمر : لو غيرك قالها يا أبا عبيدة ، نعم ، نفر من قدر الله إلى قدر الله . فهذا استناد إلى أصل قطعي أيضا ، وهو أن الأسباب من قدر الله ، ثم مثل ذلك برعي العدوة المجدبة والعدوة المخصبة ، وأن الجميع بقدر الله ، ثم أخبر بحديث الوباء الحاوي لاعتبار الأصلين .

              [ ص: 195 ] وفي الشريعة من هذا كثير جدا ، وفي اعتبار السلف له نقل كثير ولقد اعتمده مالك بن أنس في مواضع كثيرة لصحته في الاعتبار .

              ألا ترى إلى قوله في حديث غسل الإناء من ولوغ الكلب سبعا : جاء الحديث ولا [ ص: 196 ] أدري ما حقيقته ؟ وكان يضعفه ، ويقول : يؤكل صيده ، فكيف يكره لعابه ؟ وإلى هذا المعنى أيضا يرجع قوله في حديث خيار المجلس حيث قال [ ص: 197 ] بعد ذكره : وليس لهذا عندنا حد معروف ولا أمر معمول به فيه . إشارة إلى أن المجلس مجهول المدة ولو شرط أحد الخيار مدة مجهولة لبطل إجماعا ، فكيف يثبت بالشرع حكم لا يجوز شرطا بالشرع ؟ فقد رجع إلى أصل إجماعي .

              وأيضا فإن قاعدة الغرر والجهالة قطعية ، وهى تعارض هذا الحديث الظني .

              فإن قيل : فقد أثبت مالك خيار المجلس في التمليك .

              قيل : الطلاق [ ص: 198 ] يعلق على الغرر ، ويثبت في المجهول ، فلا منافاة بينهما بخلاف البيع .

              ومن ذلك أن مالكا أهمل اعتبار حديث : من مات ، وعليه صيام صام عنه وليه ، وقوله : أرأيت لو كان على أبيك دين الحديث ؛ لمنافاته للأصل القرآني الكلي نحو قوله : ألا تزر وازرة وزر أخرى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى [ النجم : 38 ، 39 ] كما اعتبرته عائشة في حديث ابن عمر .

              وأنكر مالك حديث إكفاء القدور التي طبخت من الإبل والغنم قبل القسم تعويلا على أصل رفع الحرج الذي يعبر عنه بالمصالح المرسلة فأجاز [ ص: 199 ] أكل الطعام قبل القسم لمن احتاج ، قاله ابن العربي .

              ونهى عن صيام ست من شوال مع ثبوت الحديث فيه تعويلا على أصل سد الذرائع .

              ولم يعتبر في الرضاع خمسا ولا عشرا; للأصل القرآني في قوله : [ ص: 200 ] وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة [ النساء : 23 ] وفي مذهبه من هذا كثير ، وهو أيضا رأي أبي حنيفة ، فإنه قدم خبر القهقهة في الصلاة على القياس; إذ لا إجماع في المسألة ورد خبر القرعة; لأنه يخالف الأصول; لأن الأصول قطعية ، وخبر الواحد [ ص: 201 ] ظني والعتق حل في هؤلاء العبيد ، والإجماع منعقد على أن العتق بعد ما نزل في المحل لا يمكن رده فلذلك رده كذا قالوا ، وقال ابن العربي : إذا جاء خبر الواحد معارضا لقاعدة من قواعد الشرع; هل يجوز العمل به أم لا ؟ فقال أبو حنيفة : لا يجوز العمل به ، وقال الشافعي : يجوز ، وتردد مالك في المسألة .

              قال : ومشهور قوله والذي عليه المعول أن الحديث إن عضدته قاعدة أخرى قال به ، وإن كان وحده تركه ، ثم ذكر مسألة مالك في ولوغ الكلب قال : لأن هذا الحديث عارض أصلين عظيمين :

              أحدهما : قول الله تعالى : فكلوا مما أمسكن عليكم [ المائدة : 4 ] والثاني : أن علة الطهارة هي الحياة ، وهي قائمة في الكلب ، وحديث العرايا إن صدمته قاعدة الربا عضدته قاعدة المعروف .

              [ ص: 202 ] وكذلك لم يأخذ أبو حنيفة بحديث منع بيع الرطب بالتمر لتلك العلة أيضا .

              [ ص: 203 ] قال ابن عبد البر : كثير من أهل الحديث استجازوا الطعن على أبي حنيفة لرده كثيرا من أخبار الآحاد العدول .

              قال : لأنه كان يذهب في ذلك إلى عرضها على ما اجتمع عليه من الأحاديث ، ومعاني القرآن فما شذ من ذلك رده ، وسماه شاذا .

              [ ص: 204 ] وقد رد أهل العراق مقتضى حديث المصراة ، وهو قول مالك لما رآه مخالفا للأصول ، فإنه قد خالف أصل الخراج بالضمان ولأن متلف [ ص: 205 ] الشيء إنما يغرم مثله أو قيمته ، وأما غرم جنس آخر من الطعام ، أو العروض ، فلا .

              وقد قال مالك فيه : إنه ليس بالموطأ ولا الثابت ، وقال به في القول الآخر شهادة بأن له أصلا متفقا عليه يصح رده إليه بحيث لا يضاد هذه الأصول الأخر ، وإذا ثبت هذا كله ظهر وجه المسألة إن شاء الله .

              [ ص: 206 ] وأما الرابع ، وهو الظني الذي لا يشهد له أصل قطعي ولا يعارض أصلا قطعيا فهو في محل النظر ، وبابه باب المناسب الغريب ، فقد يقال : لا يقبل لأنه إثبات شرع على غير ما عهد في مثله والاستقراء يدل على أنه غير موجود ، وهذان يوهنان التمسك به على الإطلاق; لأنه في محل الريبة ، فلا يبقى مع ذلك ظن ثبوته ولأنه من حيث لم يشهد له أصل قطعي معارض لأصول الشرع; إذ كان عدم الموافقة مخالفة وكل ما خالف أصلا قطعيا مردود فهذا مردود ، ولقائل أن يوجه الإعمال بأن العمل بالظن على الجملة ثابت في تفاصيل الشريعة ، وهذا فرد من أفراده ، وهو وإن لم يكن موافقا لأصل ، فلا مخالفة فيه أيضا ، فإن عضد الرد عدم الموافقة عضد القبول عدم المخالفة فيتعارضان ، ويسلم أصل العمل بالظن ، وقد وجد منه في الحديث قوله : - عليه الصلاة [ ص: 207 ] والسلام - : القاتل لا يرث ، وقد أعمل العلماء المناسب الغريب في أبواب القياس ، وإن كان قليلا في بابه فذلك غير ضائر إذا دل الدليل على صحته .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية