الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وإذا وطئت المعتدة بشبهة فعليها عدة أخرى وتداخلت العدتان ، ويكون ما تراه المرأة من الحيض [ ص: 326 ] محتسبا منهما جميعا ، وإذا انقضت العدة الأولى ولم تكمل الثانية فعليها تمام العدة الثانية ) وهذا عندنا . وقال الشافعي : لا تتداخلان لأن المقصود هو العبادة فإنها عبادة كف عن التزوج والخروج فلا تتداخلان كالصومين في يوم واحد [ ص: 327 ] ولنا أن المقصود التعرف عن فراغ الرحم وقد حصل بالواحدة فتتداخلان ، ومعنى العبادة تابع ، ألا ترى أنها تنقضي بدون علمها ومع تركها الكف .

التالي السابق


( قوله وإذا وطئت المعتدة بشبهة ) من أجنبي أو من الزوج ، ووافق الشافعي في أحد قوليه فيما إذا كان الواطئ المطلق [ ص: 326 ] والوطء بشبهة يتحقق بصور . منها التي زفت إلى غير زوجها ، والموطوءة للزوج بعد الثلاث في العدة بنكاح قبل نكاح زوج آخر أو في العدة إذا قال : ظننت أنها تحل لي ، والتي طلقها بالكناية ثم وطئها في العدة ، أو كانت في عدة فوطئها آخر بشبهة ، أو في عصمة فوطئها آخر بشبهة ثم طلقها الزوج ، ففي هذه تجب عدتان ويتداخلان وهو قول مالك ، وعدمه قول الشافعي وأحمد رحمهم الله .

وما في الغاية من أن الشبهة في المطلقة الطلاق الثلاث في الفعل والشبهة في الفعل لا يثبت النسب بالوطء ، وإن قال ظننت أنها تحل لي ، وإذا لم يثبت النسب لا تجب به العدة سيأتي دفعه في كتاب الحدود إن شاء الله تعالى ، ثم معنى التداخل جعل المرئي عنهما حتى لو كانت وطئت بعد حيضة من العدة الأولى فعليها حيضتان تمامها وتحتسب بهما من عدة الثاني ، وللآخر أن يخطبها إذا انقضت عدتها من الأول لأنها في عدته ولا يخطبها غيره ، فإن كان الأول طلقها رجعيا فله أن يراجعها إذا شاء لا يقر بها حتى تنقضي عدتها من الآخر ، وإن طلقها بائنا فليس له أن يخطبها بعد وجوب العدة عليها من الثاني حتى تنقضي عدتها منه ، وكذا إن كانت العدتان بالشهور ، قالوا : والخلاف مبني على أن ركن العدة ماذا ؟ فعند الشافعي كف النفس عن الحرمات في مدة معينة ، فإذا وجب كف عنها في مدة بسبب وكف عنها كذلك بسبب آخر لا يتداخلان ، لأن هذا الكف عبادة والعبادات لا تتداخل ، إنما التداخل لائق بالعقوبات ; ألا ترى أن من وجب عليه الكف عن الشهوتين في يوم بسبب ثم وجب مثله بسبب آخر لا يخرج عن عهدة ذلك بصوم يوم واحد . وعندنا أن الركن نفس تلك الحرمات الكائنة في تلك المدة .

ويمكن اجتماع حرمات في الشيء الواحد كالخروج والتزوج فيما نحن فيه في زمان واحد بأسباب مختلفة كحرمة الخمر المحلوف على عدم شربها نهارا للصائم ونحو ذلك ، ومعنى العبادة تابع بدليل أنها تنقضي بدون علمها ومع تركها الكف ، ونحن نستأنف الكلام ونقول : لا شك أنه يثبت عند تمام سبب العدة أمور : هي حرمة الخروج وحرمة الزينة وحرمة التزوج في مدة معينة تنتهي هذه الحرمات بانتهائها ، ووجوب التربص في تلك المدة أيضا الثابت بقوله تعالى { والمطلقات يتربصن } مع أن هذا الوجوب لا بد أن يثبت لازما للحرمة بأدنى تأمل ومتعلق الوجوب ليس إلا فعل المكلف ، والتربص وإن كان الانتظار فهو [ ص: 327 ] من أفعال النفس ، فإن أردنا تعيينه لم نر أنسب به من كونه ترك تلك الحرمات إلى انقضاء المدة وترك الشيء لا يخرج عن كون كف النفس عنه أو حبسها .

فمن ظن المقابلة بين الكف والترك بعد عن التحقيق ، وحينئذ يكون حاصل { يتربصن } نهيا عن تلك الأمور ; لأنه طلب الكف عنها كما جعلوا قوله تعالى { وذروا البيع } نهيا عنه فالثابت تحريم هذه الأمور ، ومن المعلوم أن لزوم الكف لا يتعلق بالمرأة إلا عند علمها بالسبب ، إذ التكليف بالمقدور ولا قدرة بدون العلم فيحكم بهذه المقدمة وهي أن الحكم إنما يثبت في حق المكلف باعتبار علمه بالسبب .

والمقدمة القائلة : إن الحكم المقيد بمدة ينتهي بانتهائها لزم أنها إذا لم تعلم بالطلاق حتى تمت العدة خرجت عن العدة غير آثمة لأن الثابت في حقها لم يكن حكم الخطاب ، بل غايته أصل الوجوب الثابت بالسبب ولا طلب في أصل الوجوب على ما عرف ، أو علمت ثم لم تكف : أي لم تتربص عن الخروج والنكاح حتى انتهت إلى حد الزنا إلى أن تمت المدة خرجت عن العدة آثمة فلا يكون انقضاؤها بلا علمها ومع تركها الكف دليلا على أن معنى العبادة تابع كما قال المصنف ، بل الدليل على ذلك تحققها في حق من لا تصح العبادة منه ولا تجب عليه كالمجنونة والصغيرة ، فعلم أن تحقق العدة في الشرع بالأصالة إنما هو لتعرف فراغ الرحم ولإظهار خطر النكاح والبضع فقد يجتمعان كما في ذات الأقراء وقد لا كما في الآيسة والصغيرة ، ومعنى العبادة تابع وهو كف القادرة المختارة نفسها عن متعلقات تلك الحرمات ، ولا شك أن العدة تطلق على كل من تلك الأمور ، أما على التربص ففي قولنا وجبت العدة ونحوه [ ص: 328 ]

وأما على نفس المدة ففي نحو قولنا انقضت العدة وما سنذكر أيضا ، وأما على نفس الحرمات فبفرض دعوانا أنها الركن ، لكن الشأن في بيان أن مسمى لفظ العدة في الشرع ماذا ؟ فالذي يفيده حقيقة نظم كتاب الله تعالى ، وهو قوله عز وجل { فعدتهن ثلاثة أشهر } أنه نفس المدة الخاصة التي تعلقت الحرمات فيها وتقيدت بها لا الحرمات الثابتة فيها ولا وجوب الكف ولا التربص لقوله تعالى { يتربصن } إنما يفيد لزوم التربص لا أنه مسمى لفظ العدة ، وقد قلنا : إن كلا من الأمور ثابت عند تمام السبب والكلام الآن ليس فيه ، وأما قوله تعالى { أجلهن أن يضعن حملهن } { حتى يبلغ الكتاب أجله } { فإذا بلغن أجلهن } فالأجل هو ما كان من المدة لتأخير ما ثبت عند مضيه كالمطالبة في الدين ، ثم الثابت بمضي هذا الأجل حل النكاح والخروج فيكون الثابت قبله حرمتهما ، ولا دليل فيه أيضا إلا على مجرد الثبوت وهو لا يستلزم كونه الركن كما قلنا في التربص ، وأما وصف العدة بالوجوب في قولنا العدة واجبة ووجبت فإنما يقتضي أن المراد بها فعل كالتربص والكف وهو لا يستلزم كونه المفهوم الحقيقي إلا ظاهرا ، وذلك لو لم يعارضه النظم القرآني .

فتلخص أنه يجب كون مسمى العدة المدة الخاصة التي تعلقت فيها الحرمات عند الكل .

وحينئذ نقول : لا يلزم بناء الخلاف في تداخل العدتين على كون ركن العدة الكف أو الحرمات ، بل يصح ثبوته مع الاتفاق على أنها المدة حقيقة ، وذلك لأن العدة حينئذ تعلقت فيها حرمات يجب لها كف النفس عن متعلقاتها . فتداخل العدتين يستلزم تداخل تلك العبادات الواجبة فيما لا أن تداخلها تداخلها واللازم متحد حينئذ وهو امتناع تداخل العبادات سواء جاء لازما لتداخل العدة أو كان عين تداخلها فلذا والله أعلم اقتصر المصنف عن كون المبني ما هو . والدفع على هذا التقدير أن الكف الواجب لم يجب تحققه على وجه العبادة بل مطلقا ، إذ لا دليل يوجب كونه وجب إيجاده على ذلك الوجه بل الدليل قام على عدمه للاتفاق على أن البالغة العاقلة لو وقع الكف منها بغير نية بل اتفاقا أو لغرض مباح حتى انقضت المدة لم يحكم بكونها آثمة مع أنه لم تتحقق العبادة لعدم نية الاحتساب لله تعالى فعلم أنه لم يجب على أنه عبادة . نعم هو له عرضية أن يصير عبادة ، فإن البالغة العاقلة إذا كفت نفسها عن الخروج وغيره مع فروغ النفس لذلك احتسابا لله وقصدا لطاعته وقع ذلك عبادة لله تعالى لا أنه يجب إيقاعه كذلك لما ذكرنا .




الخدمات العلمية