الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( والصبي ) ولو مراهقا أو أجازه بعد البلوغ ، أما لو قال : أوقعته وقع لأنه ابتداء إيقاع وجوزه الإمام أحمد ( والمعتوه ) من العته ، وهو اختلال في العقل ( والمبرسم ) من البرسام بالكسر علة كالجنون ( والمغمى عليه ) هو لغة المغشي ( والمدهش ) فتح . وفي القاموس : دهش الرجل تحير ودهش بالبناء للمفعول فهو مدهوش وأدهشه الله ( والنائم ) لانتفاء الإرادة ، ولذا لا يتصف بصدق ولا كذب ولا خبر ولا إنشاء [ ص: 244 ] ولو قال : أجزته أو أوقعته لا يقع لأنه أعاد الضمير إلى غير معتبر جوهرة . ولو قال : أوقعت ذلك الطلاق [ ص: 245 ] أو جعلته طلاقا وقع بحر

التالي السابق


( قوله والصبي ) أي إلا إذا كان مجبوبا وفرق بينهما أو أسلمت زوجته فعرض الإسلام عليه مميزا فأبى وقع الطلاق رملي . قال : وقد أفتيت بعدم وقوعه فيما إذا زوجه أبوه امرأة وعلق عليه متى تزوج أو تسرى عليه فكذا فكبر فتزوج عالما بالتعليق أولا . ا هـ . ( قوله أو أجازه بعد البلوغ ) لأنه حين وقوعه وقع باطلا والباطل لا يجاز ط ( قوله لأنه ابتداء إيقاع ) لأن الضمير في أوقعته راجع إلى جنس الطلاق ، ومثله ما لو قال أوقعت ذلك الطلاق ، بخلاف قوله أوقعت الذي تلفظته فإنه إشارة إلى المعين الذي حكم ببطلانه فأشبه ما إذا قال أنت طالق ألفا ثم قال : ثلاثا عليك والباقي على ضراتك ، فإن الزائد على الثلاث ملغى أفاده في البحر .

( قوله وجوزه الإمام أحمد ) أي إذا كان مميزا يعقله بأن يعلم أن زوجته تبين منه كما هو مقرر في متون مذهبه فافهم ( قوله من العته ) بالتحريك من باب تعب مصباح ( قوله وهو اختلال في العقل ) هذا ذكره في البحر تعريفا للجنون وقال ويدخل فيه المعتوه . وأحسن الأقوال في الفرق بينهما أن المعتوه هو القليل الفهم المختلط الكلام الفاسد التدبير ، لكن لا يضرب ولا يشتم بخلاف المجنون ا هـ وصرح الأصوليون بأن حكمه كالصبي إلا أن الدبوسي قال تجب عليه العبادات احتياطا . ورده صدر الإسلام بأن العته نوع جنون فيمنع وجوب أداء الحقوق جميعا كما بسطه في شرح التحرير ( قوله بالكسر إلخ ) أي كسر الباء . قال في البحر : وفي بعض كتب الطب أنه ورم حار يعرض للحجاب الذي بين الكبد والأمعاء ثم يتصل بالدماغ ط ( قوله هو لغة المغشي ) قال في التحرير : الإغماء آفة في القلب أو الدماغ تعطل القوى المدركة والمحركة عن أفعالها مع بقاء العقل مغلوبا وإلا عصم منه الأنبياء وهو فوق النوم فلزمه ما لزمه وزيادة كونه حدثا ولو في جميع حالات الصلاة ومنع البناء ، وبخلاف النوم في الصلاة إذا اضطجع حالة النوم له البناء .

( قوله وفي القاموس دهش ) أي بالكسر كفرح . ثم إن اقتصاره على ذكر التحير غير صحيح ، فإنه في القاموس قال بعده أو : ذهب عقله حياء أو خوفا ا هـ وهذا هو المراد هنا ، ولذا جعله في البحر داخلا في المجنون . [ ص: 244 ] مطلب في طلاق المدهوش وقال في الخيرية : غلط من فسره هنا بالتحير ، إذ لا يلزم من التحير وهو التردد في الأمر ذهاب العقل . وسئل نظما فيمن طلق زوجته ثلاثا في مجلس القاضي وهو مغتاظ مدهوش ، أجاب نظما أيضا بأن الدهش من أقسام الجنون فلا يقع ، وإذا كان يعتاده بأن عرف منه الدهش مرة يصدق بلا برهان . ا هـ . قلت : وللحافظ ابن القيم الحنبلي رسالة في طلاق الغضبان قال فيها : إنه على ثلاثة أقسام : أحدها أن يحصل له مبادئ الغضب بحيث لا يتغير عقله ويعلم ما يقول ويقصده ، وهذا لا إشكال فيه . والثاني أن يبلغ النهاية فلا يعلم ما يقول ولا يريده ، فهذا لا ريب أنه لا ينفذ شيء من أقواله .

الثالث من توسط بين المرتبتين بحيث لم يصر كالمجنون فهذا محل النظر ، والأدلة على عدم نفوذ أقواله . ا هـ . ملخصا من شرح الغاية الحنبلية ، لكن أشار في الغاية إلى مخالفته في الثالث حيث قال : ويقع الطلاق من غضب خلافا لابن القيم ا هـ وهذا الموافق عندنا لما مر في المدهوش ، لكن يرد عليه أنا لم نعتبر أقوال المعتوه مع أنه لا يلزم فيه أن يصل إلى حالة لا يعلم فيها ما يقول ولا يريده وقد يجاب بأن المعتوه لما كان مستمرا على حالة واحدة يمكن ضبطها اعتبرت فيه واكتفي فيه بمجرد نقص العقل ، بخلاف الغضب فإنه عارض في بعض الأحوال ، لكن يرد عليه الدهش فإنه كذلك . والذي يظهر لي أن كلا من المدهوش والغضبان لا يلزم فيه أن يكون بحيث لا يعلم ما يقول بل يكتفى فيه بغلبة الهذيان واختلاط الجد بالهزل كما هو المفتى به في السكران على ما مر ، ولا ينافيه تعريف الدهش بذهاب العقل فإن الجنون فنون ، ولذا فسره في البحر باختلال العقل وأدخل فيه العته والبرسام والإغماء والدهش . ويؤيده ما قلنا قول بعضهم : العاقل من يستقيم كلامه وأفعاله إلا نادرا ، والمجنون ضده . وأيضا فإن بعض المجانين يعرف ما يقول ويريده ويذكر ما يشهد الجاهل به بأنه عاقل ثم يظهر منه في مجلسه ما ينافيه ، فإذا كان المجنون حقيقة قد يعرف ما يقول ويقصده فغيره بالأولى ، فالذي ينبغي التعويل عليه في المدهوش ونحوه إناطة الحكم بغلبة الخلل في أقواله وأفعاله الخارجة عن عادته ، وكذا يقال فيمن اختل عقله لكبر أو لمرض أو لمصيبة فاجأته : فما دام في حال غلبة الخلل في الأقوال والأفعال لا تعتبر أقواله وإن كان يعلمها ويريدها لأن هذه المعرفة والإرادة غير معتبرة لعدم حصولها عن الإدراك صحيح كما لا تعتبر من الصبي العاقل ، نعم يشكل عليه ما سيأتي في التعليق عن البحر . وصرح به في الفتح والخانية وغيرهما ، وهو : لو طلق فشهد عنده اثنان أنك استثنيت وهو غير ذاكر ، وإن كان بحيث إذا غضب لا يدري ما يقول وسعه الأخذ بشهادتهما وإلا لا ا هـ مقتضاه أنه إذا كان لا يدري ما يقول يقع طلاقه وإلا فلا حاجة إلى الأخذ بقولهما إنك استثنيت ، وهذا مشكل جدا ، وإلا أن يجاب بأن المراد بكونه لا يدري ما يقول أنه لقوة غضبه قد ينسى ما يقول ولا يتذكره بعد ، وليس المراد أنه صار يجري على لسانه ما لا يفهمه أو لا يقصده إذ لا شك أنه حينئذ يكون في أعلى مراتب الجنون ، ويؤيده هذا الحمل أنه في هذا الفرع عالم بأنه طلق وهو قاصد له ، لكنه لم يتذكر الاستثناء لشدة غضبه ، هذا ما ظهر لي في تحرير هذا المقام ، والله أعلم بحقيقة المرام ثم رأيت ما يؤيد ذلك الجواب ، وهو أنه قال في الولوالجية : إن كان بحال لو غضب يجري على لسانه ما لا يحفظه بعده جاز له الاعتماد على قول الشاهدين ، فقوله لا يحفظه بعده صريح فيما قلنا والله أعلم . ( قوله لأنه أعاد الضمير إلى غير معتبر ) أشار به إلى أن الفرق بين كلام الصبي وبين كلام النائم هو أن كلام الصبي معتبر في اللغة والنحو غاية الأمر أن الشارع ألغاه ، بخلاف كلام النائم فإنه غير معتبر عند أحد . ا هـ . ح . [ ص: 245 ] قلت : وهو مأخوذ من قول الشارح ولذا لا يتصف بصدق أو كذب ولا خبر ولا إنشاء . وفي التحرير : وتبطل عبارته من الإسلام والردة والطلاق ، ولم توصف بخبر وإنشاء وصدق وكذب كألحان الطيور . ا هـ . ومثله في التلويح ، فهذا صريح في أن كلام النائم لا يسمى كلاما لغة ولا شرعا بمنزلة المهمل . وأما فساد صلاته به فلأن إفسادها لا يتوقف على كون الكلام معتبرا في اللغة أو الشرع لأنها تفسد بالمهمل أكثر من غيره ، فقد اتضح الفرق بين كلامه وكلام الصبي فافهم . ثم لا يخفى أنه لا حاجة إلى الفرق بينهما في قوله أجزته لأنه لا يقع فيهما ، لأن الإجازة لما ينعقد موقوفا ، وكل من طلاق الصبي والنائم وقع باطلا موقوفا كما هو الحكم في تصرفات الصبي التي هي ضرر محض كالطلاق والعتق ، بخلاف المتردد بين النفع والضرر كالبيع والشراء والنكاح فإنه ينعقد موقوفا ، حتى لو بلغ فأجازه صح كما قدمناه قبيل باب المهر . وإنما يحتاج إلى الفرق بينهما في قوله أوقعته فإنه قدم في الصبي أنه يقع لأنه ابتداء إيقاع ولم يجعل في النائم كذلك . وتوضيح الفرق أن كلام الصبي له معنى لغوي وإن لم يلزمه الشرع بموجبه ، فصح عود الضمير في أوقعته إلى جنس الطلاق الذي تضمنه قوله لزوجته طلقتك بخلاف النائم فإن كلامه لما لم يعتبر لغة أيضا فكان مهملا لم يتضمن شيئا ، فقد عاد الضمير على غير مذكور أصلا فكأنه قال أوقعت بدون ضمير فلم يصح جعله ابتداء إيقاع ( قوله أو جعلته طلاقا ) كذا عبارة البحر ، والذي رأيته في التتارخانية : أو قال جعلت ذلك الطلاق طلاقا باسم الإشارة كالتي قبلها . قلت : ويشكل الفرق ، فإن اسم الإشارة كالضمير في عوده إلى ما سبق فينبغي عدم الوقوع هنا أيضا . وقد يجاب بأن اسم الإشارة لما لغا مرجعه اعتبر لفظ الطلاق المذكور بعده فصار كأنه قال : أوقعت الطلاق أو جعلت الطلاق طلاقا فصح جعله ابتداء إيقاع ، بخلاف الضمير إذا لغا مرجعه كما قررناه . وفي التتارخانية : ولو قال أوقعت ما تلفظت به في حالة النوم لا يقع شيء ا هـ وهو ظاهر كما مر في طلاق الصبي .




الخدمات العلمية