الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ( وأما ) الثاني ، وهو بيان العلة فنقول : الأصل المعلول في هذا الباب بإجماع القائسين الحديث المشهور ، وهو ما روى أبو سعيد الخدري ، وعبادة بن الصامت رضي الله عنهما عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال { : الحنطة بالحنطة مثلا بمثل يدا بيد ، والفضل ربا ، والشعير بالشعير مثلا بمثل يدا بيد ، والفضل ربا ، والتمر بالتمر مثلا بمثل يدا بيد ، والفضل ربا ، والملح بالملح مثلا بمثل يدا بيد ، والفضل ربا ، والفضة بالفضة مثلا بمثل يدا بيد ، والفضل ربا ، والذهب بالذهب مثلا بمثل يدا بيد ، والفضل ربا } أي : بيعوا الحنطة بالحنطة مثلا بمثل يدا بيد .

                                                                                                                                وروي مثل بمثل بالرفع أي : بيع الحنطة بالحنطة مثل بمثل يد بيد جائز فهذا النص معلول باتفاق القائسين غير أنهم اختلفوا في العلة .

                                                                                                                                قال أصحابنا : علة ربا الفضل في الأشياء الأربعة المنصوص عليها الكيل مع الجنس ، وفي الذهب ، والفضة الوزن مع الجنس فلا تتحقق العلة إلا باجتماع الوصفين ، وهما القدر ، والجنس ، وعلة ربا النساء هي أحد ، وصفي علة ربا الفضل إما الكيل ، أو الوزن المتفق ، أو الجنس ، وهذا عندنا ، وعند الشافعي علة ربا الفضل في الأشياء الأربعة الطعم ، وفي الذهب ، والفضة الثمنية في قول ، وفي قول هما غير معلولين ، وعلة ربا النساء ما هو علة ربا الفضل ، وهي الطعم في المطعومات ، والثمنية في الأثمان دون الجنس إذ الأصل عنده حرمة بيع المطعوم بجنسه .

                                                                                                                                ( وأما ) التساوي في المعيار الشرعي مع اليد مخلص من الحرمة بطريق الرخصة ، احتج الشافعي لإثبات هذا الأصل بما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال { : لا تبيعوا الطعام بالطعام إلا سواء بسواء } هذا الأصل يدل على أن الأصل حرمة بيع المطعوم بجنسه ، وإنما الجواز بعارض التساوي في المعيار الشرعي ; لأنه عليه الصلاة والسلام نهى عن بيع الطعام بالطعام مطلقا ، واستثنى حالة المساواة فيدل على أن الحرمة هي الأصل في بيع المطعوم بالمطعوم من غير فصل بين القليل والكثير ، وفيه دليل أيضا على جعل الطعم علة ; لأنه أثبت الحكم عقيب اسم مشتق من معنى ، والأصل : أن الحكم إذا ثبت عقيب اسم مشتق من معنى [ ص: 184 ] يصير موضع الاشتقاق علة للحكم المذكور كقوله تعالى - جل ، وعلا - { : والسارق ، والسارقة فاقطعوا أيديهما } ، وقوله - سبحانه وتعالى - : { الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة } والطعام اسم مشتق من الطعم فيدل على كون الطعم علة ، ولأن العلة اسم لوصف مؤثر في الحكم ، ووصف الطعم مؤثر في حرمة بيع المطعوم ، والحكم متى ثبت عقيب وصف مؤثر يحال إليه كما في الزنا ، والسرقة ، ونحو ذلك ، وبيان تأثير الطعم أنه وصف ينبئ عن العزة ، والشرف ; لكونه متعلق البقاء ، وهذا يشعر بعزته وشرفه ، فيجب إظهار عزته وشرفه ، وذلك في تحريم بيع المطعوم بجنسه ، وتعليق جوازه بشرطي التساوي في المعيار الشرعي ، واليد ; لأن في تعلقه بشرطين تضييق طريق إصابته ، وما ضاق طريق إصابته يعز وجوده فيعز إمساكه ، ولا يهون في عين صاحبه فكان الأصل فيه هو الحظر ; ولهذا كان الأصل في الأبضاع الحرمة ، والحظر ، والجواز بشرطي الشهادة ، والولي إظهارا لشرفها لكونها منشأ البشر الذين هم المقصودون في العالم ، وبهم قوامها ، والأبضاع وسيلة إلى وجود الجنس ، والقوت وسيلة إلى بقاء الجنس فكان الأصل فيها الحظر ، والجواز بشرطين ليعز وجوده ، ولا تتيسر إصابته فلا يهون إمساكه فكذا هذا ، وكذا الأصل في بيع الذهب ، والفضة بجنسهما هو الحرمة ; لكونهما أثمان الأشياء فيها وعليها ، فكان قوام الأموال ، والحياة بها فيجب إظهار شرفها في الشرع بما قلنا .

                                                                                                                                ( ولنا ) في إثبات الأصل إشارات النصوص من الكتاب العزيز ، والسنة ، والاستدلال .

                                                                                                                                ( أما ) الكتاب فقوله تعالى { : أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين وزنوا بالقسطاس المستقيم ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين } وقال سبحانه وتعالى : { ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين } جعل حرمة الربا بالمكيل ، والموزون مطلقا عن شرط الطعم فدل على أن العلة هي الكيل ، والوزن ، وقال - سبحانه وتعالى - { : ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون } ألحق الوعيد الشديد بالتطفيف في الكيل ، والوزن مطلقا من غير فصل بين المطعوم وغيره .

                                                                                                                                ( وأما ) السنة فما روي أن { عامل خيبر أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تمرا جنيبا فقال : أوكل تمر خيبر هكذا ؟ فقال : لا ، ولكني أعطيت صاعين ، وأخذت صاعا فقال عليه الصلاة والسلام : أربيت هلا بعت تمرك بسلعة ، ثم ابتعت بسلعتك تمرا } ؟ وكذلك الميزان وأراد به الموزون بطريق الكناية لمجاورة بينهما مطلقا من غير فصل بين المطعوم ، وغير المطعوم ، وكذا روى مالك بن أنس ، ومحمد بن إسحاق الحنظلي بإسنادهما الحديث المشهور الذي رواه محمد في كتاب البيوع عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال في آخره { : وكذلك كل ما يكال ، أو يوزن } .

                                                                                                                                ( وأما ) الاستدلال فهو : أن الفضل على المعيار الشرعي من الكيل ، والوزن في الجنس إنما كان ربا في المطعومات ، والأثمان من الأشياء الستة المنصوص عليها لكونه فضل مال خال عن العوض يمكن التحرز عنه في عقد المعاوضة ، وقد وجد في الجص ، والحديد ، ونحوهما فورود الشرع ثمة يكون ورودا هنا دلالة ، وبيان ذلك أن البيع لغة ، وشرعا مبادلة المال بالمال ، وهذا يقتضي التساوي في البدلين على وجه لا يخلو كل جزء من البدل من هذا الجانب عن البدل من ذلك الجانب ; لأن هذا هو حقيقة المبادلة ; ولهذا لا يملك الأب ، والوصي بيع مال اليتيم بغبن فاحش ، ولا يصح من المريض إلا من الثلث ، والقفيز من الحنطة مثل القفيز من الحنطة صورة ، ومعنى ، وكذلك الدينار مع الدينار .

                                                                                                                                ( أما ) الصورة فلأنهما متماثلان في القدر ، وأما معنى فإن المجانسة في الأموال عبارة عن تقارب المالية فكان القفيز مثلا للقفيز ، والدينار مثلا للدينار ; ولهذا لو أتلف على آخر قفيزا من حنطة يلزمه قفيز مثله ، ولا يلزمه قيمته ، وإذا كان القفيز من الحنطة مثلا للقفيز من الحنطة كان القفيز الزائد فضل مال خال عن العوض يمكن التحرز عنه في عقد المعاوضة فكان ربا ، وهذا المعنى لا يخص المطعومات ، والأثمان بل يوجد في كل مكيل بجنسه ، وموزون بمثله فالشرع الوارد هناك يكون ، واردا ههنا دلالة .

                                                                                                                                ( وأما ) قوله : الأصل حرمة بيع المطعوم بجنسه فممنوع ، ولا حجة له في الحديث ; لأنه عليه الصلاة والسلام ما اقتصر على النهي عن بيع الطعام بالطعام ليجعل الحظر فيه أصلا ، بل قرن به الاستثناء فقال عليه الصلاة والسلام : إلا سواء بسواء فلا يدل على كون الحرمة فيه أصلا ، وقوله : جعل الطعم علة دعوى ممنوعة أيضا ، والاسم [ ص: 185 ] المشتق من معنى إنما يجعل علة للحكم المذكور عقيبه عندنا إذا كان له أثر كالزنا ، والسرقة ، ونحوهما فلم قلتم بأن للطعم أثرا ؟ وكونه متعلق البقاء لا يكون أثره في الإطلاق أولى من الحظر فإن الأصل فيه هو التوسيع دون التضييق على ما عرف ، والله - سبحانه وتعالى - أعلم .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية