الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  542 44 - (حدثنا محمد بن العلاء، قال: أخبرنا أبو أسامة، عن بريد، عن أبي بردة، عن أبي موسى، قال: كنت أنا وأصحابي الذين قدموا معي في السفينة نزولا في بقيع بطحان والنبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة، فكان يتناوب النبي - صلى الله عليه وسلم - عند صلاة العشاء كل ليلة نفر منهم، فوافقنا النبي - صلى الله عليه وسلم - أنا وأصحابي، وله بعض الشغل في بعض أمره، فأعتم بالصلاة حتى ابهار الليل، ثم خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - فصلى بهم، فلما قضى صلاته قال لمن حضره: على رسلكم أبشروا، إن من نعمة الله عليكم أنه ليس أحد من الناس يصلي هذه الساعة غيركم، أو قال: ما صلى هذه الساعة أحد غيركم، لا ندري أي الكلمتين قال، قال أبو موسى: فرجعنا ففرحنا بما سمعنا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم).

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة مثل مطابقة الحديث السابق.

                                                                                                                                                                                  (ذكر رجاله) كلهم تقدموا ومحمد بن العلاء هو أبو كريب، وأبو أسامة حماد بن أسامة، وبريد بضم الباء الموحدة، وأبو بردة اسمه عامر، وهو جد بريد، وأبو موسى عبد الله بن قيس الأشعري.

                                                                                                                                                                                  (ذكر لطائف إسناده) فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، وفيه العنعنة في ثلاثة مواضع، وفيه القول، وفيه رواية الرجل عن جده، وفيه ثلاثة بالكنى، وفيه رواية الابن عن أبيه، وفيه أن رواته ما بين كوفي ومدني، وهذا الإسناد بعينه مضى في باب من أدرك من العصر ركعة غير أن هناك ذكر محمد بن العلاء بكنيته وهاهنا باسمه.

                                                                                                                                                                                  (ذكر من أخرجه غيره) أخرجه مسلم في الصلاة أيضا، عن أبي بكر بن أبي شيبة وعبد الله بن براد وأبي كريب، ثلاثتهم عن أبي أسامة عنه به. وروى أحمد وأبو داود والنسائي وابن خزيمة وغيرهم من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله تعالى عنه: (صلينا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة العتمة، فلم يخرج حتى مضى نحو من شطر الليل، فقال: إن الناس قد صلوا وأخذوا مضاجعهم، وإنكم لن تزالوا في صلاة ما انتظرتم الصلاة، ولولا ضعف الضعيف وسقم السقيم وحاجة ذي الحاجة، لأخرت هذه الصلاة إلى شطر الليل، وأخرجه ابن ماجه، عن أبي سعيد: (إن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى المغرب، ثم لم يخرج حتى ذهب شطر الليل، ثم خرج فصلى بهم).

                                                                                                                                                                                  وقال: (لولا الضعيف والسقيم لأحببت أن أؤخر هذه الصلاة إلى شطر الليل). وروى الترمذي من حديث أبي هريرة : (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم أن يؤخروا العشاء إلى ثلث الليل أو نصفه). وروى أبو داود من حديث معاذ بن جبل - رضي الله تعالى عنه - يقول: (بقينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صلاة العتمة فتأخر حتى ظن ظان أنه ليس بخارج، والقائل منا يقول: صلى وأنا كذلك حتى خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا له كما قالوا، فقال: أعتموا بهذه الصلاة فإنكم قد فضلتم بها على سائر الأمم ولم تصلها أمة قبلكم). قوله: (بقينا) بفتح القاف؛ أي: انتظرناه، يقال: بقيت الرجل أبقيته: إذا انتظرته. وأخرج أبو داود أيضا، عن عبد الله بن عمر (مكثنا ذات ليلة ننتظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لصلاة العشاء، فخرج إلينا حين [ ص: 65 ] ذهب ثلث الليل أو بعده فلا ندري أشيء شغله أم غير ذلك فقال حين خرج: أتنتظرون هذه الصلاة؟ لولا أن تثقل على أمتي لصليت بهم هذه الساعة، ثم أمر المؤذن فأقام الصلاة، وأخرجه مسلم والنسائي أيضا.

                                                                                                                                                                                  (ذكر معناه) قوله: (نزولا) جمع نازل كشهود جمع شاهد. قوله: (في بقيع بطحان) البقيع بفتح الباء الموحدة وكسر القاف وسكون الياء آخر الحروف وبالعين المهملة وهو من الأرض المكان المتسع ولا يسمى بقيعا إلا وفيه شجر أو أصولها، وبطحان بضم الباء الموحدة وسكون الطاء المهملة وبالحاء المهملة غير منصرف واد بالمدينة، وقال ابن قرقول : بطحان بضم الباء يرويه المحدثون أجمعون وحكى أهل اللغة فيه بطحان بفتح الباء وكسر الطاء ولذلك قيده أبو المعالي في (تاريخه) وأبو حاتم وقال البكري: بفتح أوله وكسر ثانيه على وزن فعلان، لا يجوز غيره.

                                                                                                                                                                                  قوله: (نفر) مرفوع لأنه فاعل يتناوب والنفر عدة رجال من ثلاثة إلى عشرة. قوله: (فوافقنا النبي صلى الله عليه وسلم) بلفظ المتكلم. قوله: (وله بعض الشغل) جملة حالية وجاء في تفسير بعض الشغل في (معجم الطبراني ) من وجه صحيح عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر كان في تجهيز جيش. قوله: (فأعتم بالصلاة) أي: أخرها عن أول وقتها.

                                                                                                                                                                                  قوله: (حتى ابهار الليل) بتشديد الراء على وزن افعال كاحمار ومعناه انتصف، وعن سيبويه كثرت ظلمته وابهار القمر كثر ضوؤه، ذكره في (الموعب) وفي (المحكم) ابهار الليل إذا تراكمت ظلمته وقيل: إذا ذهبت عامته وفي كتاب (الواعي) ابهيرار الليل طلوع نجومه وفي (الصحاح) ابهار الليل ابهيرارا إذا ذهب معظمه وأكثره وابهار علينا الليل أي: طال، قال الداودي : انهار الليل يعني بالنون موضع الباء تقول كسر منه وانهزم ومنه قوله تعالى: فانهار به في نار جهنم ، وفيه نظر ولم يقله أحد غيره.

                                                                                                                                                                                  قوله: (على رسلكم) بكسر الراء وفتحها أي: على هيئتكم والكسر أفصح. قوله: (أبشروا) من أبشر إبشارا يقال: بشرت الرجل وأبشرته وبشرته بالتشديد ثلاث لغات بمعنى ويقال: بشرته بمولود فأبشر إبشارا أي سر.

                                                                                                                                                                                  قوله: (إن من نعمة الله) كلمة من للتبعيض وهو اسم إن، وقوله: (أنه) بالفتح لأنه خبره، وقال بعضهم: أنه بالفتح للتعليل قلت: ليس كذلك على ما لا يخفى. قوله: (ففرحنا) بلفظ المتكلم عطف على قوله: (فرجعنا)، هذا في رواية الكشميهني وفي رواية غيره فرجعنا فرحى على وزن فعلى وقال الكرماني : إما جمع فريح على غير قياس، وإما مؤنث الأفرح وهو نحو الرجال فعلت، قلت: بل هو جمع فرحان كعطشان يجمع على عطشى وسكران على سكرى ويروى: " فرجعنا فرحا " بفتح الراء مصدرا بمعنى الفرحين وهو نحو الرجال فعلوا، وعلى الوجهين أعني فرحى وفرحا نصب على الحال من الضمير الذي في رجعنا، فإن قلت: المطابقة بين الحال وذي الحال شرط في الواحد والتثنية والجمع والتذكير والتأنيث، وفي رواية: " فرحا " غير موجود قلت: الفرح مصدر في الأصل ويستوي فيه هذه الأشياء قوله: (بما سمعناه) الباء تتعلق بفرحنا، وكلمة ما موصولة والعائد محذوف تقديره بما سمعناه فإن قلت: ما سبب فرحهم؟ قلت: علمهم باختصاصهم بهذه العبادة التي هي نعمة عظمى مستلزمة للمثوبة الحسنى، هذا الوجه ذكره الكرماني وعندي وجه آخر وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم مع كونه مشغولا بأمر الجيش خرج إليهم وصلى بهم فحصل لهم الفرح بذلك وازدادوا فرحا ببشارته بتلك النعمة العظيمة.

                                                                                                                                                                                  (ذكر ما يستفاد منه): فيه جواز الحديث بعد صلاة العشاء، وفيه إباحة تأخير العشاء إذا علم أن بالقوم قوة على انتظارها ليحصل لهم فضل الانتظار، لأن المنتظر للصلاة في الصلاة وقال ابن بطال: وهذا لا يصلح اليوم لأئمتنا؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لما أمر الأئمة بالتخفيف، وقال: إن فيهم الضعيف والسقيم وذا الحاجة، كان ترك التطويل عليهم في انتظارها أولى، وقال مالك: تعجيلها أفضل للتخفيف وقال ابن قدامة: يستحب تأخيرها للمنفرد ولجماعة يرضون بذلك، وإنما نقل التأخير عنه عليه الصلاة والسلام مرة أو مرتين لشغل حصل له قلت: قال أصحابنا: إن كان القوم كسالى يستحب التعجيل وإن كانوا راغبين يستحب التأخير، وفيه أن التأني في الأمور مطلوب، وفيه: أن التبشير لأحد بما يسره محبوب لأن فيه إدخال السرور في قلب المؤمن.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية