الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم

اختلف المتأولون في من المراد بقوله تعالى: إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان ؟ فقال الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه: المراد بها جميع من تولى ذلك اليوم عن العدو.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

يريد على جميع أنحاء التولي الذي لم يكن تحرفا لقتال.

وأسند الطبري رحمه الله قال: خطب عمر رضي الله عنه يوم الجمعة فقرأ [آل [ ص: 397 ] عمران]، وكان يعجبه إذا خطب أن يقرأها، فلما انتهى إلى قوله: إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان قال: لما كان يوم أحد هزمنا ففررت حتى صعدت الجبل، فلقد رأيتني أنزو كأني أروى، والناس يقولون: قتل محمد، فقلت: لا أجد أحدا يقول: قتل محمد إلا قتلته، حتى اجتمعنا على الجبل، فنزلت هذه الآية كلها. قال قتادة: هذه الآية في كل من فر بتخويف الشيطان وخدعه، وعفا الله عنهم هذه الزلة. قال ابن فورك: لم يبق مع النبي يومئذ إلا ثلاثة عشر رجلا، أبو بكر، وعلي، وطلحة، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، وسائرهم من الأنصار، أبو طلحة وغيره. وقال السدي وغيره: إنه لما انصرف المسلمون عن حملة المشركين عليهم صعد قوم الجبل، وفر آخرون حتى أتوا المدينة، فذكر الله في هذه الآية الذين فروا إلى المدينة خاصة.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

جعل الفرار إلى الجبل تحيزا إلى فئة.

وقال عكرمة: نزلت هذه الآية فيمن فر من المؤمنين فرارا كثيرا، منهم رافع بن المعلى، وأبو حذيفة بن عتبة ورجل آخر، قال ابن إسحاق: فر عثمان بن عفان، وعقبة بن عثمان وأخوه سعد، ورجلان من الأنصار زرقيان، حتى بلغوا الجعلب، -جبل بناحية المدينة مما يلي الأعوص- فأقاموا به ثلاثة أيام، ثم رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: "لقد ذهبتم فيها عريضة". قال ابن زيد: فلا أدري هل عفا عن هذه الطائفة خاصة أم عن المؤمنين جميعا؟ [ ص: 398 ] واستزل معناه: طلب منهم أن يزلوا، لأن ذلك هو مقتضى وسوسته وتخويفه. وقوله تعالى: "ببعض ما كسبوا" ظاهره عند جمهور المفسرين أنه كانت لهم ذنوب عاقبهم الله عليها بتمكين الشيطان من استزلالهم، وبخلق ما اكتسبوه أيضا هم من الفرار، وذهب الزجاج وغيره إلى أن المعنى: إن الشيطان ذكرهم بذنوب لهم متقدمة، فكرهوا الموت قبل التوبة منها والإقلاع عنها، قال المهدوي: بما اكتسبوا من حب الغنيمة والحرص على الحياة.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

ويحتمل لفظ الآية أن تكون الإشارة في قوله: "ببعض ما كسبوا" إلى هذه العبرة، أي: كان للشيطان في هذا الفعل الذي اكتسبوه استزلال لهم، فهو شريك في بعضه.

ثم أخبر تعالى بعفوه عنهم، فتأوله جمهور العلماء على حط التبعة في الدنيا والآخرة، وكذلك تأوله عثمان بن عفان في حديثه مع عبيد الله بن عدي بن الخيار، وكذلك تأوله ابن عمر في حديثه مع الرجل العراقي، وقال ابن جريج: معنى الآية: عفا الله عنهم إذ لم يعاقبهم، والفرار من الزحف كبيرة من الكبائر بإجماع فيما علمت، وعدها رسول الله صلى الله عليه وسلم: في الموبقات مع الشرك وقتل النفس وغيرها.

التالي السابق


الخدمات العلمية