الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 269 ] سنة عشرين وخمسمائة من الهجرة النبوية ،

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فيها تراسل السلطان محمود والخليفة على السلطان سنجر
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وأن يكونا عليه ، فلما علم بذلك سنجر كتب إلى ابن أخيه محمود ينهاه ويستميله إليه ، ويحذره من الخليفة ، وأنه متى ما فرغا منه تفرغ له ورتب عليه ، فأصغى إلى قول عمه ، ورجع عن عزمه ، وأقبل يقصد بغداد ليدخلها عامه ذلك ، فكتب إليه الخليفة ينهاه عن ذلك لقلة الأقوات بها ، فلم يقبل منه وأقبل إليه ، فلما أزف قدومه ، خرج الخليفة من داره وتحيز إلى الجانب الغربي ، فشق ذلك عليه وعلى الناس ، ودخل عيد الأضحى فخطب الخليفة الناس بنفسه خطبة عظيمة بليغة فصيحة جدا ، وكبر وراءه خطباء الجوامع ، وكان يوما مشهودا . وقد سردها ابن الجوزي بطولها ، ورواها عن من حضرها من الخليفة مع قاضي القضاة أبي القاسم الزينبي ، وجماعة من العدول ، ولما أراد الخليفة أن ينزل عن المنبر ابتدره أبو المظفر محمد بن أحمد بن عبد العزيز الهاشمي فأنشده :

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 270 ]

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      عليك سلام الله يا خير من علا على منبر قد حف أعلامه النصر     وأفضل من أم الأنام وعمهم
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      بسيرته الحسنى وكان له الأمر     لقد شنفت أسماعنا منك خطبة
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وموعظة فصل يلين لها الصخر     ملأت بها كل القلوب مهابة
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فقد رجفت من خوف تخويفها مصر     سما لفظها فضلا على كل قائل
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وجل علاها أن يلم بها حصر     أشدت بها سامي المنابر رفعة
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      تقاصر عن إدراكها الأنجم الزهر     وزدت بها عدنان مجدا مؤثلا
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فأضحى لها بين الأنام بك الفخر     فلله عصر أنت فيه إمامه
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ولله دين أنت فيه لنا الصدر     بقيت على الأيام والملك كلما
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      تقادم عصر أنت فيه أتى عصر     وأصبحت بالعيد السعيد مهنأ
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      يشرفنا فيه صلاتك والنحر

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ولما نزل الخليفة عن المنبر ذبح البدنة بيده ، ودخل السرادق ، وتباكى الناس ودعوا للخليفة بالتوفيق والنصر ، ثم دخل السلطان محمود إلى بغداد يوم الثلاثاء الثامن عشر من ذي الحجة ، فنزلوا في بيوت الناس ، وحصل للناس أذى كثير في حريمهم ، فراسل الخليفة في الصلح ، فأبى ذلك الخليفة ، وركب في جيشه وقاتل الأتراك ومعه شرذمة قليلة من المقاتلة ; ولكن العامة كلهم معه ، فقتل من الأتراك خلق كثير ، ثم جاء عماد الدين زنكي في جيش كثيف من واسط في السفن إلى السلطان ، نجدة فلما استشعر الخليفة ذلك دعا إلى الصلح ، فوقع الصلح بين [ ص: 271 ] السلطان والخليفة ، وأخذ الملك يستبشر بذلك جدا ، ويعتذر إلى الخليفة مما وقع ، ثم خرج في أول السنة الآتية إلى همذان لمرض حصل له .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي هذه السنة كان أول مجلس تكلم فيه ابن الجوزي على المنبر يعظ الناس ، وعمره إذ ذاك ثلاث عشرة سنة ، وحضره الشيخ أبو القاسم علي بن يعلى العلوي البلخي ، وكان سنيا علمه كلمات ، ثم أصعده المنبر فقالها ، وكان يوما مشهودا ، قال ابن الجوزي : وحزر الجمع يومئذ بخمسين ألفا .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها اقتتل طغتكين صاحب دمشق وأعداؤه من الفرنج فقتل منهم خلقا كثيرا ، وغنم منهم أموالا جزيلة ، ولله الحمد والمنة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية