الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ولما فرغ من الكلام على التخصيص أخذ في الكلام على المخصص - بكسر الصاد - وهو حقيقة : فاعل التخصيص الذي هو الإخراج ، ثم أطلق على إرادته الإخراج . لأنه إنما يخصص بالإرادة فأطلق على نفس الإرادة مخصصا ، حتى قال الرازي وأتباعه : إن حقيقة التخصيص هو الإرادة . ( ويطلق ) المخصص ( مجازا على الدليل ) الدال على الإرادة ( وهو المراد هنا ) فإنه الشائع في الأصول حتى صار حقيقة عرفية ( وهو ) أي المخصص قسمان : قسم ( منفصل ) وهو ما يستقل بنفسه بأن لم يكن مرتبطا بكلام آخر ( ومنه ) أي ومن القسم المنفصل ( الحس ) نحو قوله سبحانه وتعالى { تدمر كل شيء بأمر ربها } وقوله تعالى { يجبى إليه ثمرات كل شيء } وقوله تعالى . { وأوتيت من كل شيء } . وقوله تعالى { ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم } والمراد بالحس المشاهدة . ونحن نشاهد أشياء كانت حين الريح لم تدمرها ولم تجعلها كالرميم ، كالجبال ونحوها ، ونعلم أن ما في أقصى المشرق والمغرب لم تجب إليه ثمراته ، وأن أشياء كثيرة لم تؤت منها بلقيس في قوله تعالى { وأوتيت من كل شيء } . ثم هاهنا بحثان . الأول أن هذه الأمثلة : لا تتعين أن تكون من العام المخصوص بالحس ، فقد يدعى أنها من العام الذي أريد به الخصوص . الثاني : أن ما كان خارجا بالحس فقد يدعي أنه لم يدخل حتى يخرج ، كما يأتي نظيره في التخصيص بالعقل . ( و ) من التخصيص بالمنفصل أيضا ( العقل ) ضروريا كان أو نظريا . فمثال الضروري : نحو قوله تعالى { الله خالق كل شيء } فإن العقل قاض بالضرورة أنه لم يخلق نفسه تعالى وتقدس . ومثال النظري : نحو قوله تعالى ( { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } ) فإن العقل بنظره اقتضى عدم دخول الطفل والمجنون بالتكليف بالحج ، لعدم فهمهما ، بل هما من جملة الغافلين الذين هم غير [ ص: 391 ] مخاطبين بخطاب التكليف . وقال البرماوي : منع كثير من العلماء أن ما خرج من الأفراد بالعقل من باب التخصيص ، وإنما العقل اقتضى عدم دخوله في لفظ العام .

وفرق بين عدم دخوله في لفظ العام ، وبين خروجه بعد أن دخل ، وهذا نص الشافعي في الرسالة ، فإنه قال في باب ما نزل من الكتاب عاما يراد به العام : إن من العام الذي لم يدخل خصوصه قوله تعالى { الله خالق كل شيء } { وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها } . قال : فهذا عام لا خاص فيه ، فكل شيء من سماء وأرض وذي روح وشجر وغير ذلك ، فإن الله تعالى خالقه ، وكل دابة فعلى الله رزقها ، ويعلم مستقرها ومستودعها . انتهى .

( و ) القسم الثاني من التخصيص ( متصل ) وهو ما لا يستقل بنفسه ، بل مرتبط بكلام آخر ( وهو ) أي المتصل ( أقسام ) أحدها ( استثناء متصل ) أما الاستثناء فمأخوذ من الثني ، وهو العطف ، من قوله : ثنيت الحبل أثنيه : إذا عطفت بعضه على بعض . وقيل : من ثنيته عن الشيء : إذا صرفته عنه ( وهو ) أي الاستثناء المتصل ( إخراج ما ) أي إخراج شيء ( لولاه ) أي لولا الاستثناء ( لوجب دخوله ) أي دخول ذلك الشيء ( لغة ) أي من جهة اللغة ، قال الشيخ تقي الدين : هذا قول أصحابنا والأكثرين . فعلى هذا لا يصح استثناء من النكرة . فلا يقال : جاءني رجال إلا زيدا ، لاحتمال أن لا يريد المتكلم دخوله حتى يخرجه . وقيل : إن الاستثناء إخراج ما لولاه لجاز دخوله . فعلى هذا . يصح الاستثناء من النكرة .

وسلمه القاضي وابن عقيل . وقال ابن مالك : إن وصفت النكرة صح الاستثناء منها ، وإلا فلا . وقال البرماوي : أما إذا أفاد الاستثناء من النكرة ، كاستثناء جزء مركب فيجوز ، نحو اشتريت عبدا إلا ربعه ، أو دارا إلا سقفها . فالاستثناء من النكرة إذا لم يفد لم يكن متصلا . ولا يكون منقطعا لأن شرطه أن لا يدخل في المستثنى منه قطعا . وقوله ( بإلا ) متعلق بإخراج ، يعني أن الإخراج يكون بإلا ( أو إحدى أخواتها ) أي أخوات " إلا " وأدوات الاستثناء المشهورة ثمانية ، منها : حروف باتفاق ، وهي " إلا " أو وحروف على الأصح ، وهي [ ص: 392 ] حاشا " فإنها حرف عند سيبويه دائما . ويقال فيها . : حاش وحشا . ومنها ما هو فعل بالاتفاق ، كلا يكون ، أو فعل على الأصح ، وهي " ليس " . ومنها ما هو متردد بين الحرفية والفعلية بحسب الاستعمال ، فإن نصب ما بعده كان فعلا ، وإن جر ما بعده كان حرفا ، وهو " خلا " بالاتفاق ، و " عدا " عند غير سيبويه .

ومنها ما هو اسم ، وهو " غير " و " سوى " ويقال فيه " سوى " بضم السين ، و " سواء " بفتحها والمد ، وبكسرها والمد ، سواء قلنا هو ظرف ، أو يتصرف تصرف الأسماء . ثم يشترط لصحة الاستثناء : أن يكون المستثنى والمستثنى منه صادرين من متكلم واحد ; ليخرج ما لو قال الله سبحانه وتعالى { اقتلوا المشركين } فقال النبي صلى الله عليه وسلم : { إلا أهل الذمة } فإن ذلك استثناء منفصل لا متصل .

وقدم هذا القول في جمع الجوامع . وضعف الصفي الهندي مقابله . ولهذا قال الرافعي : لو قال زيد لعمرو لي عليك مائة ، فقال عمرو : إلا درهما ، لم يكن مقرا بما عدا المستثنى على الأصح ، وأما قول العباس رضي الله تعالى عنه بعد قول النبي صلى الله عليه وسلم { لا يختلى خلاه : يا رسول الله إلا الإذخر فإنه لقيننا وبيوتنا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إلا الإذخر } فمؤول بأن العباس أراد أن يذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالاستثناء خشية أن يسكت عنه ، اتكالا على فهم السامع ذلك بقرينة ، وفهم منه أنه يريد استثناءه ، ولأجل ذلك أعاد النبي صلى الله عليه وسلم . الاستثناء ، فقال " إلا الإذخر " ولم يكتف باستثناء العباس وهذا يرشد إلى اعتبار كونه من متكلم واحد . إذا تقرر هذا ( فلا يصح ) الاستثناء ( من نكرة ) كما تقدم الكلام عليه في الشرح ( ولا ) يصح الاستثناء أيضا ( من غير الجنس ) نحو : جاء القوم إلا حمارا ، لأن الحمار لم يدخل في القوم ، وكذا : له عندي مائة درهم إلا دينارا ، ونحوه ، وهذا هو الصحيح من الروايتين عن الإمام أحمد رضي الله عنه ، واختيار الأكثر من أصحابنا وغيرهم ، وعنه رواية ثانية بصحة استثناء أحد النقدين من الآخر ، واختلف في مأخذ هذه الرواية ، فقيل : لأن النقدين كالجنس في الأشياء ، فكذا في الاستثناء ، وقيل : إن كل واحد [ ص: 393 ] منهما يعبر به عن الآخر ، وقيل : إن القول بصحة ذلك استحسانا ، وعند مالك والشافعي رضي الله عنهما : يصح الاستثناء من غير الجنس مطلقا ، لأنه ورد في الكتاب العزيز ولغة العرب ، ووجه عدم صحة الاستثناء من غير الجنس الذي هو الصحيح من المذهب أن الاستثناء صرف اللفظ بحرفه عما يقتضيه لولاه . لأنه مأخوذ من الثني ، تقول : ثنيت فلانا عن رأيه ، وثنيت عنان دابتي ، ولأن الاستثناء إنما يصح لتعلقه بالأول ، لعدم استقلاله ، وإلا فيصح استثناء كل شيء من كل شيء ، لاشتراكهما في معنى عام ، ولأنه لو قال : جاء الناس إلا الكلاب وإلا الحمير ، عد قبيحا لغة وعرفا ، ولأنه تخصيص ، فلا يصح في غير داخل . وأورد عليه قوله تعالى { إلا رمزا } ، { أن يقتل مؤمنا إلا خطأ } من علم إلا اتباع الظن " " من سلطان إلا أن دعوتكم " وقول العرب ما بالدار أحد إلا زيد ، وما جاءني زيد إلا عمرو .

وأجيب بأن " إلا " في ذلك : بمعنى " لكن " عند النحاة ، منهم : الزجاج وابن قتيبة ، وقال : هو من قول سيبويه وهو استدراك ، ولهذا لم يأت إلا بعد نفي ، أو بعد إثبات بعد جملة ( والمراد ) من . قول المقر ( بعشرة إلا ثلاثة سبعة و ) أداة الاستثناء وهي ( إلا ) في هذا المثال ( قرينة مخصصة )

التالي السابق


الخدمات العلمية