الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف - رحمه الله تعالى - : ( فإن أراد الجمع في وقت الأولى لم يجز إلا بثلاثة شروط ( أحدها ) : أن ينوي الجمع ، وقال المزني : يجوز الجمع من غير نية الجمع ، وهذا خطأ ; لأنه جمع فلا يجوز من غير نية ; كالجمع في وقت الثانية ; ولأن العصر قد يفعل في وقت الظهر على وجه الخطأ ، فلا بد من نية الجمع ليتميز التقديم المشروع من غيره ، وفي وقت النية قولان ( أحدهما ) : يلزمه أن ينوي عند ابتداء الأولى ; لأنها نية واجبة للصلاة ، فلا يجوز تأخيرها عن الإحرام كنية الصلاة ونية القصر ( والثاني ) : يجوز أن ينوي قبل الفراغ من الأولى ، وهو الأصح ; لأن النية تقدمت على حال الجمع ، فأشبه إذا نوى عند الإحرام ( والشرط الثاني ) الترتيب ، وهو أن يقدم الأولى ثم يصلي الثانية ; لأن الوقت للأولى ، وإنما يفعل الثانية تبعا للأولى فلا بد من تقديم المتبوع ( والشرط الثالث ) : التتابع ، وهو أن لا يفرق بينهما ، والدليل عليه : أنهما كالصلاة الواحدة فلا يجوز أن يفرق بينهما كما لا يجوز أن يفرق بين الركعات في صلاة واحدة ، فإن فصل بينهما بفصل طويل بطل الجمع ، وإن فصل بينهما بفصل يسير لم يضر ، وإن أخر الأولى إلى الثانية لم يصح إلا بالنية ; لأنه قد يؤخر للجمع ، وقد يؤخر لغيره ، فلا بد من نية يتميز بها التأخير المشروع عن غيره ، ويجب أن ينوي في وقت الأولى ، وأما الترتيب فليس بواجب ; لأن وقت [ ص: 254 ] الثانية وقت الأولى فجاز البداءة بما شاء منهما ، وأما التتابع فلا يجب ; لأن الأولى مع الثانية كصلاة فائتة مع صلاة حاضرة ، فجاز التفريق بينهما )

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) قال الشافعي والأصحاب : إذا أراد المسافر الجمع في وقت الأولى اشترط لصحته ثلاثة أمور .

                                      ( أحدها ) : الترتيب فيجب تقديم الأولى ; لأن الثانية تابعة لها فوجب تقديم المتبوع ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم جمع هكذا ، وقال صلى الله عليه وسلم { صلوا كما رأيتموني أصلي } فلو بدأ بالثانية لم يصح ، وتجب إعادتها بفعل الأولى جامعا ، ولو صلى الأولى ثم الثانية فبان فساد الأولى فالثانية فاسدة أيضا ويعيدهما جامعا ( الأمر الثاني ) : نية الجمع وهي شرط لصحة الجمع على المذهب ، وقال المزني وبعض الأصحاب : لا تشترط ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم جمع .

                                      ، ولم ينقل أنه نوى الجمع ، ولا أمر بنيته ، وكان يجمع معه من تخفى عليه هذه النية ، فلو وجبت لبينها ، ودليل المذهب أن الصلاة الثانية قد تفعل في وقت الأولى جمعا ، وقد تفعل سهوا فلا بد من نية تميزها ، فإذا قلنا بالمذهب ففي وقت النية نصان مختلفان ، قال أصحابنا العراقيون والخراسانيون ن : قال الشافعي : في الجمع بالمطر ينوي عند الإحرام بالأولى ، وقال في الجمع بالسفر إذا نوى قبل التسليم أو معه كان له الجمع وللأصحاب طريقان حكاهما القاضي حسين في تعليقه والبغوي والسرخسي وغيرهم أحدهما : تقرير النصين فيجب في المطر أن ينوي في الإحرام ; لأن استدامة المطر في أثناء الصلاة ليست بشرط للجمع فلم يكن محلا لنيته ، وفي السفر تجوز النية قبل الفراغ من الأولى ; لأن استدامته شرط فكانت محلا للنية .

                                      ( والطريق الثاني ) ، وهو المشهور ، وبه قطع الجمهور في المسألتين قولان ( أحدهما ) : لا تجوز النية فيهما جميعا إلا عند الإحرام بالأولى كنية القصر ( وأصحهما ) باتفاق الأصحاب : يجوز مع الإحرام بالأولى أو في أثنائها أو مع التحلل منها ، ولا يجوز بعد التحلل ، وحكى الخراسانيون وغيرهم وجها أنه يجوز في أثنائها ، ولا يجوز مع التحلل ، ووجها أنه يجوز بعد التحلل من الأولى قبل الإحرام بالثانية ، وهو قول خرجه المزني للشافعي ، وهو قوي ، [ ص: 255 ] قال الدارمي : ولو نوى الجمع ثم نوى تركه في أثناء الأولى ثم نوى الجمع ثانيا ففيه القولان

                                      ( الأمر الثالث ) : الموالاة ، والمذهب الصحيح المنصوص للشافعي وقطع به المصنف والجمهور : اشتراطها ، وفيه وجه : أنه يجوز الجمع وإن طال الفصل بينهما ما لم يخرج وقت الأولى ، حكاه أصحابنا عن أبي سعيد الإصطخري ، وحكاه الرافعي عنه ، وعن أبي علي الثقفي من أصحابنا .

                                      ونص الشافعي في الأم أنه لو صلى المغرب في بيته بنية الجمع ثم أتى المسجد فصلى العشاء جاز ، وهذا النص مؤول عند الأصحاب ، والمشهور اشتراط الموالاة ، وعليه التفريع ; لأن الجمع يجعلهما كصلاة واحدة .

                                      فوجبت الموالاة كركعات الصلاة ، قال أصحابنا : فعلى هذا لا يضر الفصل اليسير ويضر الطويل ، وفي حد الطويل والقصير وجهان قال الصيدلاني : حد أصحابنا القصير بقدر الإقامة ، وهذا ضعيف والصحيح ما قاله العراقيون : أن الرجوع في ذلك إلى العرف ، وقد يقتضي العرف احتمال زيادة على قدر الإقامة ولهذا قال جمهور الأصحاب : يجوز الجمع بين الصلاتين بالتيمم وقالوا : لا يضر الفصل بينهما بالطلب والتيمم ، لكن يخفف الطلب ، وقال أبو إسحاق المروزي : لا يجوز الجمع بالتيمم لحصول الفصل بالطلب ، وخالفه الأصحاب وقالوا : هذا فصل يسير ، ، وقد سبقت المسألة في باب التيمم .

                                      وقال القاضي أبو الطيب في المجرد : اعتبر الشافعي في الفصل المانع من الجمع الفصل المانع من بناء الصلاة بعضها على بعض إذا سلم ناسيا ، وعليه ركعة ثم أراد بناءها قال : فكل ما منع البناء منع الجمع ; وما لا فلا ، قال أصحابنا : لو صلى بينهما ركعتين سنة راتبة بطل الجمع على المذهب وقول الجمهور .

                                      وقال الإصطخري : لا يبطل ; قال أصحابنا : ومتى طال الفصل امتنع ضم الثانية إلى الأولى ، ويتعين تأخيرها إلى وقتها ; سواء طال بعذر كالسهو والإغماء ونحوهما أم بغيره .

                                      ولو جمع ثم تذكر بعد فراغه منهما أنه ترك ركنا من الأولى بطلتا جميعا وله إعادتهما جامعا ; لأن الأولى لم تصح فوجودهما كالعدم ; وإن تذكر أنه ترك ركنا من الثانية دون الأولى فإن قرب الفصل بنى عليها ; ومضت الصلاتان على الصحة ، وإن طال بطلت الثانية وتعذر الجمع لطول الفصل بفعل الثانية الباطلة ; ويتعين فعلها في وقتها ; ولو [ ص: 256 ] لم يدر أتركه من الأولى ؟ أم الثانية ؟ لزمه إعادتهما لاحتمال الترك من الأولى ، ولا يجوز الجمع على المشهور لاحتمال الترك من الثانية ; وحكى الخراسانيون قولا أنه يجوز الجمع تخريجا مما إذا أقيمت جمعتان في بلد وجهل أسبقهما ففي قول يجوز إعادة الجمعة والمذهب : امتناع الجمع .

                                      هذا كله في الجمع في وقت الأولى ; فإن أراده في وقت الثانية قال الأصحاب : يجب أن يكون التأخير بنية الجمع وتشترط هذه النية في وقت الأولى بحيث يبقى من وقتها قدر يسعها أو أكثر ، فإن أخر بغير نية الجمع حتى خرج الوقت أو ضاق بحيث لا يسع الفرض عصى وصارت الأولى قضاء يمتنع قصرها إذا منعنا قصر المقضية في السفر .

                                      وأما الترتيب ونية الجمع حال الصلاة والموالاة ففيها طريقان ( الصحيح ) : منهما ، وبه قطع العراقيون ونص عليه الشافعي : أنها كلها مستحبة ليست بواجبة فلو تركها كلها صح الجمع ( والطريق الثاني ) : قاله الخراسانيون فيه وجهان : ( الصحيح ) : هذا ( والثاني ) : أنها واجبات حتى لو أخل بواحد منها صارت الأولى قضاء لا يجوز قصرها إذا لم نجوز قصر مقضية السفر والمذهب الأول .

                                      واستدل له الشافعي والبيهقي وغيرهما بحديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال { دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم من عرفة فلما جاء المزدلفة نزل فتوضأ ثم أقيمت الصلاة فصلى المغرب ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله ; ثم أقيمت العشاء فصلاها ، ولم يصل بينهما شيئا } رواه البخاري ومسلم ، والله أعلم .



                                      ( فرع ) في مسائل تتعلق بجمع المسافر ( إحداها ) : إذا جمع تقديما فصار في أثناء الأولى أو قبل شروعه في الثانية مقيما بنية الإقامة ، أو وصول سفينته دار الإقامة بطل الجمع فيتعين تأخير الثانية إلى وقتها أما الأولى فصحيحة ; لأنها في وقتها غير تابعة ، ولو صار مقيما في أثناء الثانية فوجهان حكاهما الفوراني والقاضي حسين والسرخسي والبغوي وآخرون من الخراسانيين ( أحدهما ) : يبطل الجمع كما يمتنع القصر بالإقامة في أثنائها ، وبهذا قطع القاضي أبو الطيب في المجرد والمتولي في التتمة ، فعلى هذا هل تبطل الثانية أم تنقلب نفلا ؟ فيه القولان في نظائرها ( أصحهما ) : تنقلب نفلا ، وقد سبقت هذه القاعدة في أول صفة الصلاة .

                                      ( والثاني ) : من الوجهين [ ص: 257 ] وهو الأصح عند الرافعي ، وبهذا قطع القاضي أبو الطيب في المجرد والمتولي في التتمة : لا يبطل الجمع ; لأنها صلاة انعقدت على صفة فلم تتغير بعارض كصلاة المتيمم في السفر إذا رأى الماء فيها ، ويخالف القصر فإن الإتمام لا يبطل فرضية ما مضى .

                                      أما إذا صار مقيما بعد فراغه من الثانية ، فإن قلنا : الإقامة في أثنائها لا تؤثر في الجمع فهنا أولى ; وإلا فوجهان حكاهما الفوراني والقاضي حسين وإمام الحرمين والمتولي والبغوي وآخرون ، أصحهما : لا يبطل الجمع كما لو قصر ثم أقام ، وبهذا قطع القاضي أبو الطيب في كتابه المجرد وغيره من العراقيين ، والثاني : تبطل ، ويلزمه إعادة الثانية في وقتها لزوال السفر الذي هو سبب الجمع قال البغوي والمتولي وآخرون : الخلاف فيما إذا أقام بعد فراغه من الصلاتين في وقت الأولى أو في الثانية قبل مضي إمكان فعلها ، فإن أقام في وقت الثانية بعد إمكان فعلها - لم تجب إعادتها بلا خلاف ، وصرح إمام الحرمين بجريان الخلاف مهما بقي من وقت الثانية شيء ، هذا كله إذا جمع تقديما ، أما إذا جمع في وقت الثانية فصار مقيما بعد فراغهما لم يضر بالاتفاق ، وإن كان قبل الفراغ من الأولى صارت قضاء .

                                      ذكره المتولي والرافعي ، فإن كانت الإقامة في أثناء الثانية ينبغي أن تكون الأولى أداء بلا خلاف



                                      ( الثانية ) قال أصحابنا : إذا جمع كانت الصلاتان أداء ، سواء جمع تقديما أو تأخيرا .

                                      وحكى الغزالي وغيره وجها أنه إذا جمع تأخيرا فالمؤخرة قضاء ، والصحيح : الأول وبه قطع الجمهور



                                      ( الثالثة ) قال أصحابنا : يستحب للجامع فعل السنن الراتبة ، ويستحب ذلك للقاصر أيضا ، ، وقد سبق ذلك في آخر باب صلاة التطوع ، وسنبسط المسألة في آخر باب آداب السفر الذي سنذكره إن شاء الله - تعالى - قريبا .

                                      ونذكر هناك متى يصليها ومذاهب العلماء في استحبابها في السفر



                                      [ ص: 258 ] الرابعة ) : قال الغزالي في البسيط والمتولي في التتمة وغيرهما : الأفضل ترك الجمع بين الصلاتين ، ويصلي كل صلاة في وقتها ، قال الغزالي : لا خلاف أن ترك الجمع أفضل بخلاف القصر ، قال : والمتبع في الفضيلة الخروج من الخلاف في المسألتين ، يعني خلاف أبي حنيفة وغيره ، ممن أوجب القصر وأبطل الجمع .

                                      وقال المتولي : ترك الجمع أفضل ، ; لأن فيه إخلاء وقت العبادة من العبادة فأشبه الصوم والفطر .



                                      ( الخامسة ) : قال المتولي : لو شرع في الظهر في البلد في سفينة فسارت فصار فيها في السفر فنوى الجمع - فإن قلنا : يشترط نية الجمع حال الإحرام لم يصح جمعه وإلا فيصح لوجود السفر وقت النية .




                                      الخدمات العلمية