الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                ثم إن الناس في عبادته واستعانته على أربعة أقسام : [ ص: 125 ] فالمؤمنون المتقون هم له وبه يعبدونه ويستعينونه . وطائفة تعبده من غير استعانة ولا صبر فتجد عند أحدهم تحريا للطاعة والورع ولزوم السنة ; لكن ليس لهم توكل واستعانة وصبر ; بل فيهم عجز وجزع . وطائفة فيهم استعانة وتوكل وصبر من غير استقامة على الأمر ولا متابعة للسنة فقد يمكن أحدهم ويكون له نوع من الحال باطنا وظاهرا ويعطى من المكاشفات والتأثيرات ما لم يعطه الصنف الأول ولكن لا عاقبة له فإنه ليس من المتقين والعاقبة للتقوى ; فالأولون لهم دين ضعيف ولكنه مستمر باق ; إن لم يفسده صاحبه بالجزع والعجز ; وهؤلاء لأحدهم حال وقوة ولكن لا يبقى له إلا ما وافق فيه الأمر واتبع فيه السنة

                وشر الأقسام من لا يعبده ولا يستعينه ; فهو لا يشهد أن علمه لله ولا أنه بالله

                فالمعتزلة ونحوهم - من القدرية الذين أنكروا القدر - هم في تعظيم الأمر والنهي والوعد والوعيد خير من هؤلاء الجبرية القدرية الذين يعرضون عن الشرع والأمر والنهي

                والصوفية هم في القدر ومشاهدة توحيد الربوبية : خير من المعتزلة ولكن فيهم من فيه نوع بدع مع إعراض عن بعض الأمر والنهي . والوعد والوعيد [ ص: 126 ] حتى يجعلوا الغاية هي مشاهدة توحيد الربوبية والفناء في ذلك ويصيرون أيضا معتزلين لجماعة المسلمين وسنتهم فهم معتزلة من هذا الوجه

                وقد يكون ما وقعوا فيه من البدعة شرا من بدعة أولئك المعتزلة وكلتا الطائفتين نشأت من البصرة . وإنما دين الله ما بعث به رسله وأنزل به كتبه وهو الصراط المستقيم وهو طريقة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خير القرون وأفضل الأمة وأكرم الخلق على الله تعالى بعد النبيين ، قال تعالى : { والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه } فرضي عن السابقين الأولين رضا مطلقا ورضي عن التابعين لهم بإحسان

                وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة : " { خير القرون القرن الذي بعثت فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم }

                وكان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول : من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة ; أولئك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أبر هذه الأمة قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا ; قوم اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم وإقامة دينه فاعرفوا لهم حقهم وتمسكوا بهديهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم

                [ ص: 127 ] وقال حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما يا معشر القراء استقيموا وخذوا طريق من كان قبلكم فوالله لئن اتبعتموهم لقد سبقتم سبقا بعيدا ولئن أخذتم يمينا وشمالا لقد ضللتم ضلالا بعيدا

                وقد قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه { خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا وخط حوله خطوطا عن يمينه وشماله ثم قال : هذا سبيل الله وهذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه ثم قرأ { وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله } } وقد أمرنا سبحانه أن نقول في صلاتنا { اهدنا الصراط المستقيم } { صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين }

                وقال النبي صلى الله عليه وسلم " { اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون } وذلك أن اليهود عرفوا الحق ولم يتبعوه والنصارى عبدوا الله بغير علم . ولهذا كان يقال : تعوذوا بالله من فتنة العالم الفاجر والعابد الجاهل فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون ; وقال تعالى : { فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى } { ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا } قال ابن عباس رضي الله عنهما تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة وقرأ هذه الآية

                [ ص: 128 ] وكذلك قوله تعالى { الم } { ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين } { الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون } { والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون } { أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون } فأخبر أن هؤلاء مهتدون مفلحون وذلك خلاف المغضوب عليهم والضالين

                فنسأل الله العظيم أن يهدينا وسائر إخواننا صراطه المستقيم ; صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا وحسبنا الله ونعم الوكيل والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا

                التالي السابق


                الخدمات العلمية