الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
1257 - وعن سعد بن هشام رضي الله عنه ، قال : انطلقت إلى عائشة ، فقلت : يا أم المؤمنين أنبئيني عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم . قالت : ألست تقرأ القرآن ؟ قلت : بلى . قالت ; فإن خلق نبي الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن . قلت : يا أم المؤمنين أنبئيني عن وتر رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقالت : كنا نعد له سواكه وطهوره ، فيبعثه الله ما شاء أن يبعثه من الليل ، فيتسوك ، ويتوضأ ، ويصلي تسع ركعات ، لا يجلس فيها إلا في الثامنة ، فيذكر الله ، ويحمده ، ويدعوه ، ثم ينهض ، ولا يسلم ، فيصلي التاسعة ، ثم يقعد ، فيذكر الله ويحمده ويدعوه ، ثم يسلم تسليما يسمعنا ، ثم يصلي ركعتين بعدما يسلم وهو قاعد ، فتلك إحدى عشرة ركعة يا بني ، فلما أسن صلى الله عليه وسلم وأخذ اللحم ، أوتر بسبع ، وصنع في الركعتين مثل صنيعه في الأولى ، فتلك تسع يا بني . وكان نبي الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى صلاة أحب أن يداوم عليها ، وكان إذا غلبه نوم أو وجع عن قيام الليل ، صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة ، ولا أعلم نبي الله صلى الله عليه وسلم قرأ القرآن كله في ليلة ، ولا صلى ليلة إلى الصبح ، ولا صام شهرا كاملا غير رمضان . رواه مسلم .

التالي السابق


1257 - ( وعن سعد بن هشام ) : تابعي جليل القدر ، قاله المؤلف . ( قال : انطلقت ) ، أي : ذهبت ( إلى عائشة ، فقلت : يا أم المؤمنين ، أنبئيني ) ، أي : أخبريني ( عن خلق رسول الله ) : بضم الخاء واللام ويسكن ، أي أخلاقه وشمائله ( صلى الله عليه وسلم ) : وقال ابن الملك ، أي طبعه ومروته ( قالت : ألست تقرأ القرآن ؟ قلت : بلى . قالت : فإن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن ) ، أي : كان خلقه جميع ما فصل في القرآن من مكارم الأخلاق ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان متحليا به ، وقيل : تعني كان خلقه مذكورا في القرآن في قوله تعالى : ( وإنك لعلى خلق عظيم ) تعني أن العظيم إذا عظم أمرا لم يقدر أحد قدره ، ولم يعرف أحد طوره ، وقال صاحب الإحياء : أرادت بقولها كان خلقه - القرآن مثل قوله تعالى : ( خذ العفو ) الآية . وقوله ( إن الله يأمر بالعدل والإحسان ) الآية . وقوله : ( واصبر على ما أصابك ) وقوله تعالى : ( فاعف عنهم واصفح ) وقوله تعالى : ( والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس ) وقوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن ) من الآيات الدالة على تهذيب الأخلاق الذميمة ، وتحصيل الأخلاق الحميدة . ( قلت : يا أم المؤمنين أنبئيني ) ، أي : حدثيني ( عن وتر رسول الله صلى الله عليه وسلم ) ، أي : عن وقته وكيفيته وعدد ركعاته ( فقالت : كنا نعد ) : من الإعداد ، أي نهيئ ( له ) ، أي : لأجله ( سواكه وطهوره ) : بالفتح ، أي : ماء وضوئه ( فيبعثه الله ) ، أي : يوقظه ( ما شاء أن يبعثه ) ، أي : في الوقت المقدر الذي شاء بعثه فيه ، قال الطيبي ، وقال ابن الملك : " ما " موصولة والعائد محذوف ، أي : ما شاء فيه بمعنى المقدار ، وقوله : ( من الليل ) : بيانية ، والأظهر أنها تبعيضية ، أي : من ساعات الليل وأوقاته [ ص: 942 ] ( فيتسوك ) : أولا ( ويتوضأ ويصلي تسع ركعات ، لا يجلس فيها إلا في الثامنة ، فيذكر الله ) ، أي : يقرأ التشهد . ( ويحمده ) ، أي : يثني عليه ، قال الطيبي ، أي يتشهد ، فالحمد إذا لمطلق الثناء إذ ليس في التحيات لفظ الحمد ( ويدعوه ) ، أي : الدعاء المتعارف ( ثم ينهض ، ولا يسلم ، فيصلي التاسعة ، ثم يقعد ، فيذكر الله ، ويحمده ، ويدعوه ، ثم يسلم تسليما يسمعنا ) : من الإسماع ، أي : يرفع صوته بالتسليم بحيث نسمعه ، ( ثم يصلي ركعتين بعدما يسلم وهو قاعد ) : ظاهره مخالف لقوله عليه الصلاة والسلام . " اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا " وغيره من الأحاديث الفعلية .

وفي شرح الطيبي قال أحمد : لا أفعلهما ولا أمنع فعلهما . وأنكره مالك ، قال النووي : هاتان الركعتان فعلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا لبيان جواز الصلاة بعد الوتر ، وبيان جواز النفل جالسا ، ولم يواظب على ذلك ، وأما رد القاضي عياض رواية الركعتين فليس بصواب ; لأن الأحاديث إذا صحت وأمكن الجمع بينها تعين ، وقد جمعنا ثم قال : ولا تغتر بمن يعتقد سنية هاتين الركعتين ويدعو إليه لجهالته وعدم أنسه بالأحاديث الصحيحة ، قال ابن حجر : نعم يستثنى من ذلك المسافر ، فقد ذكر ابن حبان في صحيحه الأمر بالركعتين بعد الوتر لمسافر خاف أن لا يستيقظ للتهجد ، ثم روى عن ثوبان : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فقال : " إن هذا السفر جهد وثقل ، فإذا أوتر أحدكم فليركع ركعتين فإن استيقظ وإلا كانتا له " .

( فتلك إحدى عشرة ركعة ) : بسكون الشين ويكسر هذا نظير قوله تعالى : ( تلك عشرة كاملة ) ( يا بني ) : بفتح الياء ، وكسرها ( فلما أسن ) ، أي : كبر ( صلى الله عليه وسلم وأخذ اللحم ) : قيل ، أي السمن ، وقال ابن الملك ، أي ضعف ، قال ابن حجر : إنما كان في آخر حياته قبل موته بنحو سنة . ( أوتر بسبع ، وصنع في الركعتين مثل صنيعه في الأولى ) : يعني : صلاهما قاعدا كما كان يصنع قبل أن يسن ، ( فتلك تسع يا بني ، وكان نبي الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى صلاة ) : وكذا كل عبادة ( أحب أن يداوم عليها ) : وإنما كان يتركها أحيانا لعذر أو لبيان الجواز ، وهذا يدل منها على مواظبة الركعتين ، فلا يصح تأويل النووي بأنه لبيان الجواز ، ولعل القاضي عياضا لهذا رد رواية الركعتين حيث تعارض الأحاديث الثابتة على عدم مواظبتهما ، والله أعلم .

( وكان إذا غلبه نوم أو وجع ) ، أي : منعه مرض أو ألم ( عن قيام الليل ، صلى بالنهار ) ، أي : في أوله ما بين طلوع الشمس إلى الزوال لما تقدم ( ثنتي عشرة ركعة ، ولا أعلم نبي الله صلى الله عليه وسلم قرأ القرآن كله في ليلة ، ولا صلى ليلة إلى الصبح ، ولا صام شهرا كاملا غير رمضان ) ، أي : دائما فلا يراد أنه ورد عنها أنه كان صلى الله عليه وسلم يصوم شعبان كله ، وإن بينته الرواية الأخرى عنها أنه كان يصوم أكثره ، قال الطيبي : من باب نفي الشيء بنفي لازمه دل الكلام على أنها كانت مترقبة أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلها ونهارها وحضورها وغيبتها ، أي : لم يكن الفعل المذكور إذ لو كان لعلمته ، قال ابن حجر : وذلك لا يحسن إلا ممن أحاط علمه بذلك الشيء ، وتمكن منه تمكنا تاما ، ومن ثم اطرد ذلك في حقه تعالى قال عز من قائل : ( أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض ) ، أي : لم يوجد وإلا تعلق علم الله به . ( رواه مسلم ) : قال ميرك : ورواه أبو داود ، والنسائي .

[ ص: 943 ]



الخدمات العلمية