الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            3509 - ( وعن مالك بن أوس قال : كان عمر يحلف على أيمان ثلاث : والله ما أحد أحق بهذا المال من أحد ، وما أنا أحق به من أحد ، ووالله ما من المسلمين أحد إلا وله في هذا المال نصيب إلا عبدا مملوكا ، ولكنا على منازلنا من كتاب الله ، وقسمنا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فالرجل وبلاؤه في الإسلام ، والرجل وقدمه في الإسلام ، والرجل وغناؤه في الإسلام ، والرجل وحاجته ، ووالله لئن بقيت لهم لأوتين الراعي بجبل صنعاء حظه من هذا المال وهو يرعى مكانه . رواه أحمد في مسنده ) .

                                                                                                                                            3510 - ( وعن عمر أنه قال يوم الجابية وهو يخطب الناس : إن الله عز وجل جعلني خازنا لهذا المال وقاسما له ، ثم قال : بل الله قاسمه . وأنا بادئ بأهل النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم أشرفهم ، ففرض لأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - عشرة آلاف إلا جويرية وصفية وميمونة ، { فقالت عائشة : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يعدل بيننا } ، فعدل بينهن عمر ، ثم قال : إني بادئ بأصحابي المهاجرين الأولين ، فإنا أخرجنا من ديارنا ظلما وعدوانا ثم أشرفهم ، ففرض لأصحاب بدر منهم خمسة آلاف ، ولمن كان شهد بدرا من الأنصار أربعة آلاف ، وفرض لمن شهد أحدا ثلاثة آلاف ، قال : ومن أسرع في الهجرة أسرع به في العطاء ، ومن أبطأ في الهجرة أبطئ به في العطاء ، فلا يلومن رجل إلا مناخ راحلته رواه أحمد ) . الأثر الأول أخرجه أيضا البيهقي .

                                                                                                                                            والأثر الآخر قال في مجمع الزوائد : رجال أحمد ثقات ، والأثران فيهما أن عمر كان يفاضل في العطاء على حسب البلاء في الإسلام والقدم فيه والغناء والحاجة ، ويفضل من شهد بدرا على غيره ممن لم يشهد ، وكذلك من شهد أحدا ومن تقدم في الهجرة .

                                                                                                                                            وقد أخرج الشافعي في الأم أن أبا بكر وعليا ذهبا إلى التسوية بين الناس في القسمة ، وأن عمر كان يفضل . وروى البزار والبيهقي من طريق أبي معشر عن زيد بن أسلم عن أبيه قال : " قدم على أبي بكر مال البحرين فقال : من كان له على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عدة فليأت " فذكر الحديث بطوله في تسويته بين الناس في القسمة ، وفي تفضيل عمر الناس عن مراتبهم .

                                                                                                                                            وروى البيهقي من وجه آخر من طريق عيسى بن عبد الله الهاشمي عن أبيه عن جده قال : " أتت عليا امرأتان " فذكر القصة وفيها : " إني نظرت في كتاب الله فلم أر فضلا لولد إسماعيل على ولد إسحاق " وروى البيهقي عن [ ص: 85 ] عثمان أيضا " أنه كان يفاضل بين الناس كما كان عمر يفاضل " قوله : ( وما أنا أحق به من أحد ) فيه دليل على أن الإمام كسائر الناس لا فضل له على غيره في تقديم ولا توفير نصيب

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            قوله : ( إلا عبدا مملوكا ) فيه دليل على أنه لا نصيب للعبد المملوك في المال المذكور ، ولكن حديث عائشة المتقدم قريبا الذي أخرجه أبو داود عن عائشة { أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى بظبية فيها خرز فقسمها للحرة والأمة } وقول عائشة : " إن أبا بكر كان يقسم للحر والعبد ولا شك أن أقوال الصحابة لا تعارض المرفوع ، فمنع العبيد اجتهاد من عمر ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد أعطى الأمة ولا فرق بينها وبين العبد ، ولهذا كان أبو بكر يعطي العبيد . قوله : ( ولكنا على منازلنا من كتاب الله وقسمنا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم ) - فيه إشعار بأن التفضيل لم يقع من عمر بمجرد الاجتهاد ، وأنه فهم ذلك من الكتاب العزيز والسنة النبوية .

                                                                                                                                            قوله : ( وغناؤه ) بالغين المعجمة وهو في الأصل الكفاية ، فالمراد أن الرجل إذا كان له في القيام ببعض الأمور ما ليس لغيره كان مستحقا للتفضيل قوله : ( لئن بقيت لأوتين الراعي ) فيه مبالغة حسنة لأن الراعي الساكن في جبل منقطع عن الحي في مكان بعيد إذا نال نصيبه فبالأولى أن يناله القريب من المتولي للقسمة ومن كان معروفا من الناس ومخالطا لهم قوله : ( يوم الجابية ) بالجيم وبعد الألف موحدة : وهي موضع بدمشق على ما في القاموس وغيره قوله : ( فإنا أخرجنا من ديارنا ) هو تعليل للبداءة بالمهاجرين الأولين لأن في ذلك مشقة عظيمة ، ولهذا جعله الله قرينا لقتل الأنفس ، وكذلك في بعد العهد بالأوطان مشقة زائدة على مشقة من كان قريب العهد بها ، والمهاجرون الأولون قد أصيبوا بالمشقتين فكانوا أقدم من غيرهم ، ولهذا قال في آخر الكلام : " ومن أسرع في الهجرة أسرع به في العطاء . . . إلخ " والمراد بقوله : " فلا يلومن رجل إلا مناخ راحلته " البيان لمن تأخر في العطاء بأنه أتى من قبل نفسه حيث تأخر عن المسارعة إلى الهجرة وأناخ راحلته ولم يهاجر عليها . ولكنه كنى بالمناخ عن القعود عن السفر إلى الهجرة ، والمناخ بضم الميم كما في القاموس .

                                                                                                                                            3511 - ( وعن قيس بن أبي حازم قال : كان عطاء البدريين خمسة آلاف خمسة آلاف ، وقال عمر : لأفضلنهم على من بعدهم ) .

                                                                                                                                            3512 - ( وعن نافع مولى ابن عمر : أن عمر كان فرض للمهاجرين الأولين أربعة آلاف ، وفرض لابن عمر ثلاثة آلاف وخمسمائة ، فقيل له : هو من المهاجرين فلم [ ص: 86 ] نقصته من أربعة آلاف ؟ قال : إنما هاجر به أبوه ، يقول : هو ليس كمن هاجر بنفسه ) .

                                                                                                                                            3513 - ( وعن أسلم مولى عمر قال : خرجت مع عمر بن الخطاب إلى السوق ، فلحقت عمر امرأة شابة ، فقالت : يا أمير المؤمنين هلك زوجي وترك صبية صغارا ، والله ما ينضجون كراعا ولا لهم زرع ولا ضرع ، وخشيت أن تأكلهم الضبع وأنا ابنة خفاف بن إيماء الغفاري ، وقد شهد أبي الحديبية مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوقف معها عمر ولم يمض وقال : مرحبا بنسب قريب ، ثم انصرف إلى بعير ظهير كان مربوطا في الدار فحمل عليه غرارتين ملأهما طعاما ، وجعل بينهما نفقة وثيابا ، ثم ناولها خطامه ، فقال : اقتاديه فلن يفنى هذا حتى يأتيكم الله بخير ، فقال رجل : يا أمير المؤمنين أكثرت لها ، فقال : ثكلتك أمك ، فوالله إني لأرى أبا هذه وأخاها قد حاصرا حصنا زمانا فافتتحاه فأصبحنا نستفئ سهمانهما فيه أخرجهن البخاري ) .

                                                                                                                                            3514 - ( وعن محمد بن علي أن عمر لما دون الدواوين قال : بمن ترون أبدأ ؟ قيل له : ابدأ بالأقرب فالأقرب بك ، قال : بل أبدأ بالأقرب فالأقرب برسول الله - صلى الله عليه وسلم - رواه الشافعي ) . قوله : ( لأفضلنهم على من بعدهم ) فيه إشعار بمزية البدريين من الصحابة ، وأنه لا يلحق بهم من عداهم وإن هاجر ونصر لحديث { إن الله اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم } وقد تقدم هذا الحديث وشرحه قوله : ( إنما هاجر به أبوه ) فيه دليل على أن الهجرة التي يستحق بها كمال أجر الدين والدنيا هي التي تكون باختيار وقصد لا مجرد الانتقال من المكان إلى المكان ، فإن ذلك وإن كان هجرة في الصورة والحقيقة لكن كمال الأجر يتوقف على ما قدمنا . ولهذا جعل عمر هجرة ابنه عبد الله كلا هجرة .

                                                                                                                                            وقال : إنما هاجر به أبوه مع أنه قد كان مميزا وقت الهجرة قوله : ( ما ينضجون ) بضم أوله ثم نون ثم ضاد معجمة ثم جيم : أي لم يبلغوا إلى سن من يقدر على الطبخ ومع ذلك فليسوا بأهل أموال يستغنون بغلتها ، ولا أهل مواش يعيشون بما يحصل من ألبانها وأدهانها وأصوافها قوله : ( والضبع ) بضم الباء وسكونها هي مؤنثة : اسم لسبع كالذئب معروف ، ولكن ليس ذلك هو المراد هنا ، إنما المراد السنة المجدبة . قال في القاموس : والضبع كالرجل السنة المجدبة قوله : ( خفاف ) بكسر الخاء المعجمة وفاءين خفيفتين بينهما ألف ، وإيماء بفتح الهمزة وكسرها والكسر أشهر وسكون الياء قوله : ( فوقف معها عمر ) [ ص: 87 ] أي لم يجاوز المكان الذي سألته وهو فيه . بل وقف حتى سمع منها ثم انصرف بعد ذلك لقضاء حاجتها .

                                                                                                                                            والمراد بالنسب القريب : الذي يعرفه السامع بلا سرد لكثير من الآباء وذلك إنما يكون في الأشراف المشاهير قوله : ( وجعل بينهما نفقة ) أي دراهم قال في القاموس : النفقة ما تنفقه من الدراهم ونحوها قوله : ( ثكلتك أمك ) قال في القاموس : الثكل بالضم : الموت والهلاك وفقدان الحبيب أو الولد ويحرك ، وقد ثكله كفرح فهو ثاكل وثكلان وهي ثاكل وثكلانة قليلة وثكول وأثكلت لزمها الثكل فهي مثكل من مثاكيل انتهى قوله : ( نستفئ ) قال في النهاية : أي نأخذها لأنفسنا ونقتسمها قوله : ( بل أبدأ بالأقرب فالأقرب برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) فيه مشروعية البداءة بقرابة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتقديمهم على غيرهم




                                                                                                                                            الخدمات العلمية