الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                باب الدعاء في الاستسقاء

                                                                                                                897 وحدثنا يحيى بن يحيى ويحيى بن أيوب وقتيبة وابن حجر قال يحيى أخبرنا وقال الآخرون حدثنا إسمعيل بن جعفر عن شريك بن أبي نمر عن أنس بن مالك أن رجلا دخل المسجد يوم جمعة من باب كان نحو دار القضاء ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما ثم قال يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السبل فادع الله يغثنا قال فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه ثم قال اللهم أغثنا اللهم أغثنا اللهم أغثنا قال أنس ولا والله ما نرى في السماء من سحاب ولا قزعة وما بيننا وبين سلع من بيت ولا دار قال فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت قال فلا والله ما رأينا الشمس سبتا قال ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب فاستقبله قائما فقال يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السبل فادع الله يمسكها عنا قال فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه ثم قال اللهم حولنا ولا علينا اللهم على الآكام والظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر فانقلعت وخرجنا نمشي في الشمس قال شريك فسألت أنس بن مالك أهو الرجل الأول قال لا أدري وحدثنا داود بن رشيد حدثنا الوليد بن مسلم عن الأوزاعي حدثني إسحق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك قال أصابت الناس سنة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الناس على المنبر يوم الجمعة إذ قام أعرابي فقال يا رسول الله هلك المال وجاع العيال وساق الحديث بمعناه وفيه قال اللهم حوالينا ولا علينا قال فما يشير بيده إلى ناحية إلا تفرجت حتى رأيت المدينة في مثل الجوبة وسال وادي قناة شهرا ولم يجئ أحد من ناحية إلا أخبر بجود وحدثني عبد الأعلى بن حماد ومحمد بن أبي بكر المقدمي قالا حدثنا معتمر حدثنا عبيد الله عن ثابت البناني عن أنس بن مالك قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة فقام إليه الناس فصاحوا وقالوا يا نبي الله قحط المطر واحمر الشجر وهلكت البهائم وساق الحديث وفيه من رواية عبد الأعلى فتقشعت عن المدينة فجعلت تمطر حواليها وما تمطر بالمدينة قطرة فنظرت إلى المدينة وإنها لفي مثل الإكليل وحدثناه أبو كريب حدثنا أبو أسامة عن سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس بنحوه وزاد فألف الله بين السحاب ومكثنا حتى رأيت الرجل الشديد تهمه نفسه أن يأتي أهله وحدثناهارون بن سعيد الأيلي حدثنا ابن وهب حدثني أسامة أن حفص بن عبيد الله بن أنس بن مالك حدثه أنه سمع أنس بن مالك يقول جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة وهو على المنبر واقتص الحديث وزاد فرأيت السحاب يتمزق كأنه الملاء حين تطوى

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                قوله : ( دار القضاء ) قال القاضي عياض : سميت دار القضاء لأنها بيعت في قضاء دين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - الذي كتبه على نفسه وأوصى ابنه عبد الله أن يباع فيه ماله ، فإن عجز ماله استعان ببني عدي ، ثم بقريش . فباع ابنه داره هذه لمعاوية وماله بالغابة قضى دينه وكان ثمانية [ ص: 496 ] وعشرين ألفا ، وكان يقال لها : دار قضاء دين عمر ، ثم اقتصروا فقالوا : دار القضاء ، وهي دار مروان ، وقال بعضهم : هي دار الإمارة ، وغلط لأنه بلغه أنها دار مروان فظن أن المراد بالقضاء الإمارة ، والصواب ما قدمناه ، هذا آخر كلام القاضي . قوله : ( إن دينه كان ثمانية وعشرين ألفا ) غريب بل غلط ، والصحيح المشهور أنه كان ستة وثمانين ألفا أو نحوه ، هكذا رواه البخاري في صحيحه ، وكذا رواه غيره من أهل الحديث والسير والتواريخ وغيرهم .

                                                                                                                قوله : ( ادع الله يغثنا ) وقوله - صلى الله عليه وسلم : ( اللهم أغثنا ) هكذا هو في جميع النسخ ( أغثنا ) بالألف ويغثنا بضم الياء من أغاث يغيث رباعي ، والمشهور في كتب اللغة أنه إنما يقال في المطر غاث الله الناس والأرض يغيثهم بفتح الياء أي أنزل المطر . قال القاضي عياض : قال بعضهم : هذا المذكور في الحديث من الإغاثة بمعنى المعونة ، وليس من طلب الغيث ، وإنما يقال في طلب الغيث : اللهم غثنا .

                                                                                                                قال القاضي : ويحتمل أن يكون من طلب الغيث أي هب لنا غيثا أو ارزقنا غيثا كما يقال : سقاه الله وأسقاه ، أي جعل له سقيا على لغة من فرق بينهما

                                                                                                                قوله : ( فرفع النبي - صلى الله عليه وسلم - يديه ثم قال : اللهم أغثنا ( فيه استحباب الاستسقاء في خطبة الجمعة ، وقد قدمنا بيانه في أول الباب ، وفيه جواز الاستسقاء منفردا عن تلك الصلاة المخصوصة ، واغترت به الحنفية وقالوا : هذا هو الاستسقاء المشروع لا غير ، وجعلوا الاستسقاء بالبروز إلى الصحراء والصلاة بدعة ، وليس كما قالوا ، بل هو سنة للأحاديث الصحيحة السابقة ، وقد قدمنا في أول الباب أن الاستسقاء أنواع فلا يلزم من ذكر نوع إبطال نوع ثابت ، والله أعلم

                                                                                                                قوله صلى الله عليه وسلم : ( اللهم أغثنا اللهم أغثنا اللهم أغثنا ) هكذا هو مكرر ثلاثا ففيه استحباب تكرر الدعاء ثلاثا .

                                                                                                                قوله : ( ما نرى في السماء من سحاب ولا قزعة ) هي بفتح القاف والزاي ، وهي القطعة من السحاب ، وجماعتها قزع كقصبة وقصب . قال أبو عبيد : وأكثر ما يكون ذلك في الخريف .

                                                                                                                قوله : ( وما بيننا وبين سلع من دار ) هو بفتح السين المهملة وسكون اللام وهو جبل بقرب المدينة ، ومراده بهذا الإخبار عن معجزة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعظيم كرامته على ربه - سبحانه وتعالى ؛ بإنزال المطر سبعة أيام متوالية متصلا بسؤاله من غير تقدم سحاب ولا قزع ، ولا سبب آخر لا ظاهر ولا [ ص: 497 ] باطن ، وهذا معنى قوله : ( وما بيننا وبين سلع من بيت ولا دار ) أي نحن مشاهدون له وللسماء ، وليس هناك سبب للمطر أصلا .

                                                                                                                قوله : ( ثم أمطرت ) هكذا هو في النسخ ، وكذا جاء في البخاري : أمطرت بالألف ، وهو صحيح . وهو دليل للمذهب المختار الذي عليه الأكثرون والمحققون من أهل اللغة أنه يقال : مطرت وأمطرت لغتان في المطر ، وقال بعض أهل اللغة لا يقال أمطرت بالألف إلا في العذاب كقوله تعالى وأمطرنا عليهم حجارة والمشهور الأول ، ولفظة ( أمطرت ) تطلق في الخير والشر ، وتعرف بالقرينة . قال الله تعالى قالوا هذا عارض ممطرنا وهذا من أمطر والمراد به المطر في الخير لأنهم ظنوه خيرا ، فقال الله تعالى بل هو ما استعجلتم به .

                                                                                                                قوله : ( ما رأينا الشمس سبتا ) هو بسين مهملة ثم باء موحدة ثم مثناة فوق أي قطعة من الزمان وأصل السبت القطع .

                                                                                                                قوله - صلى الله عليه وسلم - حين شكي إليه كثرة المطر وانقطاع السبل وهلاك الأموال من كثرة الأمطار : اللهم حولنا ) وفي بعض النسخ ( حوالينا ) وهما صحيحان .

                                                                                                                ( ولا علينا اللهم على الآكام والظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر قال : فانقطعت وخرجنا نمشي ) في هذا الفصل فوائد منها المعجزة الظاهرة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في إجابة دعائه متصلا به حتى خرجوا في الشمس وفيه أدبه - صلى الله عليه وسلم - في الدعاء فإنه لم يسأل رفع المطر من أصله ، بل سأل رفع ضرره وكشفه عن البيوت والمرافق والطرق بحيث لا يتضرر به ساكن ولا ابن سبيل ، وسأل بقاءه في مواضع الحاجة بحيث يبقى نفعه وخصبه وهي بطون الأودية وغيرها من المذكور . قال أهل اللغة : ( الإكام ) بكسر الهمزة جمع أكمة ، ويقال في جمعها : آكام بالفتح والمد ، ويقال : أكم بفتح الهمزة والكاف ، وأكم بضمهما وهي دون الجبل وأعلى من الرابية ، وقيل : دون الرابية ، وأما ( الظراب ) فبكسر الظاء المعجمة واحدها ظرب بفتح الظاء وكسر الراء ، وهي الروابي الصغار ، وفي هذا الحديث استحباب طلب انقطاع المطر على المنازل والمرافق إذا كثر وتضرروا به ، ولكن لا تشرع له صلاة ولا اجتماع في الصحراء .

                                                                                                                قوله : ( فانقطعت وخرجنا نمشي ) هكذا هو في بعض النسخ المعتمدة ، وفي أكثرها ( فانقلعت ) وهما بمعنى .

                                                                                                                [ ص: 498 ] قوله : ( فسألت أنس بن مالك أهو الرجل الأول ؟ قال : لا أدري ) قد جاء في رواية للبخاري وغيره أنه الأول .

                                                                                                                قوله : ( أصابت الناس سنة ) أي قحط .

                                                                                                                قوله : ( فما يشير بيده إلى ناحية إلا تفجرت ) أي تقطع السحاب وزال عنها .

                                                                                                                قوله : ( حتى رأيت المدينة في مثل الجوبة ) هي بفتح الجيم وإسكان الواو بالباء الموحدة ، وهي الفجوة ، ومعناه تقطع السحاب عن المدينة وصار مستديرا حولها وهي خالية منه .

                                                                                                                قوله : ( وسال وادي قناة شهرا ) ( قناة ) بفتح القاف اسم لواد من أودية المدينة وعليه زروع لهم فأضافه هنا إلى نفسه ، وفي رواية للبخاري : ( وسال الوادي قناة ) ، وهذا صحيح على البدل ، والأول صحيح ، وهو عند الكوفيين على ظاهره وعند البصريين يقدر فيه محذوف ، وفي رواية للبخاري : ( وسال الوادي وادي قناة ) .

                                                                                                                قوله : ( أخبر بجود ) هو بفتح الجيم وإسكان الواو وهو المطر الكثير .

                                                                                                                قوله : ( قحط المطر ) هو بفتح القاف وفتح الحاء وكسرها أي أمسك .

                                                                                                                قوله : ( واحمر الشجر ) كناية عن يبس ورقها وظهور عودها .

                                                                                                                قوله : ( فتقشعت ) أي زالت .

                                                                                                                قوله : ( وما تمطر بالمدينة قطرة ) هو بضم التاء من تمطر وبنصب قطرة .

                                                                                                                قوله : ( مثل الإكليل ) هو بكسر الهمزة . قال أهل اللغة : هي العصابة وتطلق على كل محيط بالشيء .

                                                                                                                [ ص: 499 ] قوله : ( فألف الله بين السحاب ومكثنا حتى رأيت الرجل الشديد تهمه نفسه أن يأتي أهله ) هكذا ضبطناه ( ومكثنا ) ، وكذا هو في نسخ بلادنا ، ومعناه ظاهر ، وذكر القاضي فيه أنه روي في نسخ بلادهم على ثلاثة أوجه ليس منها هذا ، ففي رواية لهم : ( وبلتنا ) ، ومعناه أمطرتنا . قال الأزهري : يقال بل السحاب بالمطر بلا والبلل المطر ، ويقال انهلت أيضا ، وفي رواية لهم : ( وملتنا ) بالميم مخففة اللام . قال القاضي : ولعل معناه أوسعتنا مطرا ، وفي رواية ( ملأتنا ) بالهمز .

                                                                                                                وقوله : ( تهمه نفسه ) ضبطناه بوجهين فتح التاء مع ضم الهاء وضم التاء مع كسر الهاء يقال همه الشيء وأهمه أي اهتم له ، ومنهم من يقول : همه أذابه وأهمه بالهمز .

                                                                                                                قوله : ( فرأيت السحاب يتمزق كأنه الملاء حين تطوى ) هو بضم الميم وبالمد ، والواحدة ( ملاءة ) بالضم والمد ، وهي الربطة كالملحفة ، ولا خلاف أنه ممدود في الجمع والمفرد ، ورأيت في كتاب القاضي قال : هو مقصور ، وهو غلط من الناسخ فإن كان من الأصل كذلك فهو خطأ بلا شك ، ومعناه تشبيه انقطاع السحاب وتجليله بالملاءة المنشورة إذا طويت .




                                                                                                                الخدمات العلمية